وأما ولاية التشريع فكانت له وحده لأنه إنما أرسل ليشرع للناس دينهم ويهديهم إلى ربهم، ويسلك بهم طريق سعادتهم وفلاحهم، ويخرجهم من الظلمات إلى النور بإذن ربهم، لا ينطق فيه عن هوى، وإنما يصدر فيه عن الوحي ينزل به الروح الأمين على قلبه فيقرؤه على الناس قرآناً مبيناً، أو يحدثهم به حديثاً نبوياً، أو يعلمهم إياه بفعل يأتيه أمامهم فيقتدون به؛ فإن لم يكن وحي صدر عن البحث والنظر ينتهيان إلى استنباطه الحكم المطلوب معتمداً في ذلك على ما استقر في نفسه من روح الوحي وما يراعيه من مصالح الناس. وليس لغير الرسول أن يتولاه، وليس له إلا الاجتهاد في تفهم النصوص وتطبيقها على الحوادث، وإذا صدر منه ما أقره النبي كان شرعاً بإقراره عليه السلام لا بصدوره من صاحبه؛ غير أن ما كان يليه الرسول أو يأتيه لم يكن كله دينا بل كان للدنيا منه كثير؛ وما شرعه في النوع الأول يجب اتباعه ولا يجوز فيه تغيير، وما اتبعه في النوع الثاني يصح أن يناله التغيير والتبديل تبعاً لتطور الزمن وتغير الناس واختلاف العادات، لأن الشأن فيه أن يسير مع المصلحة ويتقيد بالمنفعة، فجاز أن يتسع للبحث وأن يتقبل الخلاف. وكثيراً ما عدل الرسول عن رأيه إلى رأي أصحابه، وغير من رأيه حين اقتضت المصلحة التغيير. وقد ولى عليه السلام كثيراً من أمور الدنيا بحكم ولايته العامة فسلك فيها سياسة دعت إليها حاجات حاضرة وعادات قائمة ومصالح يومئذ مطلوبة، فإذا ما انتهت تلك الحاجات وتغيرت تلك المصالح وتطورت تلك العادات كان على المسلمين من بعده أن يغيروا فيها تبعاً لذلك؛ وقد حصل منهم ذلك فعلا بعد وفاته صلى الله عليه وسلم في كثير من النظم
هذه هي أهم الولايات على عهد الرسول ولم تقتصر أعمال الحكومة في عهده عليها بل تجاوزتها إلى كثير من الأعمال التي دعت إليها الحاجة واقتضاها ضبط الأمور وتنظيم العمل مثل الكتابة، والمحاسبة، والترجمة، وحفظ الختم، وحفظ السر، والعسس بالليل والحراسة فيه، فكان لكل هذه الأعمال عمال من أصحابه يقومون بها تحت رقابته وإرشاده
كان عليه الصلاة والسلام المرجع في كل هذه الأعمال يقوم على تدبيرها وتصريف شؤونها بما يوحى إليه في ذلك من ربه أو بما يهديه إليه رأيه بعد بحث ونظر ومشورة يختص بها أولي الرأي والبصيرة من صحابته كحمزة بن عبد المطلب وأبي بكر وعمر وعلي وغيرهم؛ فكان عليه السلام يستشيرهم في كثير مما يعن من الأمور التي لم ينزل