هكذا كانت معاملة النبي لنسائه، فمن لهن بالجلد على جفائه؟ ومن الذي يخرجه من عزلته، ويعيد إليهن سيرته الأولى؟ إنه عمر
- ٦ -
ما كان عمر ليسعده التجلد على عزلة النبي أكثر من شهر؛ عمر الرجل الصريح، الشجاع في الحق، الذي ليس أقرب إليه من حسامه ينتضيه في كل موقف، والذي تسلل المسلمون إلى المدينة لواذاً فخرج هو جهاراً نهاراً يقول: من أراد أن تثكله أمه، أو ييتم ولده فليتبعني)
أخذ عمر سمته إلى معتزل الرسول لا يلوي على شيء؛ حتى إذا كان منه عن كثب نادى رَباحا غلام الرسول: يا رباح استأذن لي مولاك في الدخول؛ بيد أن الغلام يدخل ثم يعود بلا إذن. فيعاود عمر الكرة، فيعود الغلام بلا إذن، فيهتاج عمر، فيقتحم المكان داخلا قائلا: يا رسول الله، إن كنت ظننت أنني جئت من أجل حفصة ابنتي، فوالذي بعثك بالحق، لولا رهبتي إياك لوجأت عنقها، ولكني أريد أن تضع حداً لتخرصات المتخرصين
ثم يلتفت عمر، فلا يرى غير قبضة من شعير، وجسد طاهر أثر فيه الحصير، فيبكي حتى تخضل لحيته، ولكن رسول الله يهش لعمر، ويهدئ من روعه، ثم يغادر المكان إلى حجرات أمهات المؤمنين، ثم يأمر بهن، فيدخلن واحدة واحدة، ويبدأ بعائشة:
إيه يا عائشة! إنه قد ألقي قول كريم (يا أيها النبي قل لأزواجك إن كنتن تردن الحياة الدنيا وزينتها فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحاً جميلا. وإن كنتن تردن الله ورسول والدار الآخرة فإن الله أعد للمحسنات منكن أجراً عظيما. . . الآيات) فأيهما تختارين؟
أيهما تختار! وهل يحتاج الأمر إلى الروية وكد الذهن؟ ما كان لعائشة أن تختار غير الله ورسوله، وما لغيرها من أمهات المؤمنين أن يخالف عائشة في الاختيار
وبذلك عاود بيت النبي صفاؤه وسكونه، وانقشعت عن أفقه تلك السحابة التي أظلته ردحاً من الزمن، وكان الدرس ناجحاً