لولا البحر لمضى عقبة الفاتح مجاهداً في سبيل الله، وهل كانت به حاجة إلى هذا القول وله من غزواته ما هو أبلغ من كل كلام؟ إنها لعمري قصيدة رائعة لا يزال الدهر يرويها ولا تزال في سجل البطولة رائعة المقاطع رنانة القافية! وماذا أبلغ من تلك القلة تصل ما بين المشرق والمغرب، وتقاتل البربر والروم في بلاد مجهولة المسالك بعد ما بين قاصيها ودانيها؟ وأي بلاد هي بل وأي قوم! لم يلق المسلمون في أي موطن في مشرق الأرض مثل ما لاقوا هنا من عرك وبلاء؛ بل لم يلق غير المسلمين من الغزاة قبل بلاء هو أشد مما لقي العرب في بلاد المغرب من بلاء. كانت القبائل الموتورة تنزل من الجبال كما تنزل الكواسر فتنقض على جناحي الجيش الغازي مرة، أو تأتيه من خلفه مرة، بينما يتعرض القلب لقتال شديد من المتصدين له. ولو كان على رأسهم غير عقبة لما جاوزوا برقة إلا قليلاً
وقف البحر في وجه عقبة وما استعصى عليه غير البحر، فكان لابد من الرجوع. فأدار البواسل المجاهدون وجوههم يريدون القيروان ولم يلاقوا في أوبتهم عنتاً أول الأمر؛ حتى أمن عقبة واستخف بالأمر فأرسلهم إلى القيروان قبيلاً يتلوه قبيل
ولكن البربر قلوبهم مطوية على الحقد، كما كانت نفوسهم مفطورة على الغدر، وكان كبيرهم كسيلة يتحين الفرصة ويتهيأ للانتقام. كانت بينه وبين عقبة أشياء فهو من شيعة أبي المهاجر، أسلم في عهده وحسن إسلامه، فلما عاد عقبة استخف به وبالغ في إذائه؛ حتى لقد أمره مرة أن يسلخ الشياه مع السالخين وهو يقول هؤلاء غلماني يقومون بما تريد، ولكن عقبة يأبى إلا أن يذله. ولقد نصح له أبو المهاجر أن يحسن معاملة عقبة وقبح فعله على ما بينهما من خصومة، ولكنه أبى واستكبر استكباراً. وعاد أبو المهاجر فأشار عليه أن يوثقه ولكنه أعرض حتى عن هذا
ليت عقبة سمع ما أبدى له من نصح فرعاه واتبعه، أجل ليته تدبر ما أشار به أبو المهاجر، إذاً لنجا مما كان يدبر له.
قصد عقبة في أوبته تهوذا وفيها للروم جيش وحصن؛ لم يكن معه إلا بقية جيشه الفاتح، فاستهان الروم بالغازي وأغلظوا له القول، بل لقد وصل بهم الأمر إلى السباب وهو يدعوهم إلى الإسلام؛ فوقف ليذيقهم بأس سيفه، ولكنهم كانوا قد أخذوا للأمر عدته من قبل،