المنكر وإقامة الحدود، وأنزل عليهم (ولا تفسدوا في الأرض بعد إصلاحها وادعوه خوفاً وطمعاً إن رحمة الله قريب من المحسنين) فأحسنوا وأطاعوا ما أقام بينهم الرسول. فلما علم صلى الله عليه وسلم أنه مفارقهم عن قريب حج بهم حجة الوداع وخطبهم خطبة الوداع التي لا يكاد يحفظها الآن مسلم:
(أيها الناس اسمعوا مني أبين لكم فإني لا أدري لعلي لا ألقاكم بعد عامي هذا في موقفي هذا
أيها الناس! إن دماءكم وأموالكم وأعراضكم حرام عليكم إلى أن تلقوا ربكم كحرمة يومكم هذا في شهركم هذا في بلدكم هذا. ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد. . .
أيها الناس! إنما المؤمنون اخوة فلا يحل لامرئ مال أخيه إلا عن طيب نفسه. ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد. فلا ترجعن بعدي كفارا، يضرب بعضكم رقاب بعض، فإني قد تركت فيكم ما إن أخذتم به لم تضلوا بعده: كتاب الله وسنة نبيه. ألا هل بلغت؟ اللهم اشهد. . .)
هذا بعض ما عهد الرسول به إلى المسلمين في ذلك الموقف العظيم. فلما قبض صلى الله عليه وسلم أحسن المسلمون خلافته وأحسنوا السمع والطاعة لله ولرسوله وللخليفة الأول ومن بعده؛ وسار فيهم رضي الله عنه متأس بالرسول، حاملا أيهم على الحق ضارب لهم المثل بنفسه، جاعلاً طاعة الله أول الأمر وأخره (أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإذا عصيته فلا طاعة لي عليكم. ألا إن أقواكم عندي الضعيف حتى آخذ الحق له، وأضعفكم عندي القوي حتى آخذ الحق منه)
فلما قبض رضي الله عنه خلفه في المسلمين من كان يرعاهم رعي الأم ولدها، ويذودهم عن المهالك ذود الراعي غنمه (اقدعوا هذه النفوس عن شهواتها فإنها طلعة، فإنكم إلا تقدعوها تنزع بكم إلى شر غاية. إن هذا الحق ثقيل مرئ، وإن الباطل خفيف وبيء؛ وترك الخطيئة خير من معالجة التوبة، ورب نظرة زرعت شهوة، وشهوة ساعة أورثت حزناً طويلاً). وكان أكبر ما يحرص عليه رضي الله عنه ألا يتطرق إلى البيئة الإسلامية خلل أو فساد وأن بقي ضعيف النفس من المسلمين شر المغريات، حتى أنه لما سمع المتمنية تتمنى نصر بن حجاج دعا به، فلما رآه نفاه من الأرض، وأمر ألا يغيب رجل في الغزو عن بيته فوق أربعة أشهر كما أمر ألا ينزل المسلمون منازل المترفين في البلاد التي يفتحونها مخافة أن يخرجوا من أخلاقهم شيئاً فشيئاً إذا اختلفت بهم البيئات