للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

وراع القوم أن يجهد عمار نفسه فتنقل الحديث في همس: (إن عماراً يريد أن يقتل نفسه فهو يحملها فوق طاقتها!) وسمع النبي (ص) الحديث فراح ينفض التراب عن رأس عمار وهو يقول: (ويحك ابن سمية! تقتلك الفئة الباغية!)

ولصق هو بالنبي ما ينأى عنه في سلم ولا حرب لأن قلبه وإيمانه لا يطاوعانه على أن يفعل. . .

ولحق النبي الكريم بالرفيق الأعلى فبكاه عمار - فيمن بكى - سحاً وتسكاباً، وفي قلبه - من أثر الفراق - جرح ما يندمل إلا أن يلحق بسيده، ثم هو لم يستشعر الوهن ولا الضعف في دينه

وارتد مسيلمة وقومه حين انفرجت الثغرة بموت الرسول فاندفع إليهم عمار - فيمن اندفع - ثائراً هائجاً يهدر يريد أن يؤدب قوماُ على عصيانهم، وحين وجد في المسلمين هوادة وفتوراً ارتقى هو شرفاً عالياً ثم أخذ ينادي وقد قطعت أذنه: (إلي، إلي يا معشر المسلمين، أنا عمار بن ياسر، أمن الجنة تفرون؟ هلموا إلي!) ثم اندفع إلى الصفوف يفرق ما اجتمع منها كأنه فتى في الثلاثين، وهو قد شارف السبعين من سني حياته

رحم الله عمر بن الخطاب فلقد كان بصيراً بأقدار الرجال حين أمر عمار بن ياسر على الكوفة وكتب إلى أهلها: (. . . أما بعد، فإني بعثت إليكم عمار بن ياسر أميراً وعبد الله بن مسعود وزيراً ومعلماً، وإنهما لمن النجباء من أصحاب محمد من أهل بدر فاسمعوا لهما وأطيعوا واقتدوا بهما. . .)

لقد تأمر عمار على الكوفة فما أخذته كبرياء المنصب، ولا روعة الإمارة؛ ثم عزله عمر فما استولى عليه اليأس، وما حمل لأمير المؤمنين في قلبه حفيظة ولا حقداً، بل قال: (والله لقد ساءتني الولاية بقدر ما ساءني العزل) واندفع على سننه لا يجد الخور ولا الفتور إلى نفسه سبيلاً

يا عجباً! يا عجباً! يتغلغل الإيمان في القلب فيحجب الإنسان عن لذاذات الحياة ومباهجها لينقله إلى لذاذات ومباهج أخر هي لذاذات قلبه ومباهج دينه؛ ثم ينزع عنه أطماع الدنيا وشهواتها فإذا سواء لديه أن يكون له ملك لا ينبغي لأحد من بعده، أو يكون فقيراً لا يستطيع السبيل إلى اللقمة يقيم بها صلبه إلا بشق الأنفس

<<  <  ج:
ص:  >  >>