إذن كانت بعثة الرسول وهجرته حادثين محتمين، فكتب لهما التوفيق والنجاح على الرغم مما اكتنفهما من مظاهر الضعف. وقد أخطأ من ظن عداوة قريش للنبي وصحابته هزيلة أو وهمية، أو أن زعماء الوثنية كانوا ضعفاء النكاية، فقد كان المجتمع القرشي تام التكوين الاقتصادي والسياسي بالنسبة لحالة الحضارة المعاصرة، وذا نظم حكومية وإدارية بارعة. من ذلك أنهم جعلوا جائزة مالية لمن يطارد المهاجرين ويظفر بهما وهو ما تلجأ إليه شرطة الحكومات الغربية الحديثة. ومن الثابت أن محمداً وأبا بكر كانا منفردين لا ثالث لهما بعد أن تركا بطل الإسلام وسيفه ولسانه علي ابن أبي طالب في فراش النبي ليخدع المتآمرين بأن النبي مازال في داره ولم يغادر فراشه. وإن شجاعة علي في إيثاره وإقدامه على التضحية بنفسه لا تقل عن شجاعة أبي بكر في مصاحبته. وكان من المستطاع أن يُغتال عليّ في فراش محمد ظناً من أهل الوثنية أنه المقصود بأسيافهم وخناجرهم. ولكن حياة عليّ كانت ضرورية للإسلام فأنقذه الله وهو الفرد الراقد المستسلم لقضائه وقدره. أما محمد وأبو بكر فلم يكونا هاربين ولا مدبرين لينجوا بحياتهما من أخطار محققة محدقة، ولكنهما كانا قاصدين إلى طيبة ليفتتحا عهداً جديداً ويستهلا عصر كفاح وجهاد وجلاد وسلسلة انتصارات لم يسبق لها مثيل في تاريخ المعتقدات الدينية.
- ٤ -
فطن القرشيون بما ركب في غريزتهم من الذكاء وبعد النظر وسعة الحيلة إلى أن ظهور هذا النبي قرين زوال دولتهم المدنية التي نظموها على نسق يشبه نسق المدن الإغريقية. وكان اليونان زعماء النقل البحري كما كان العرب زعماء النقل البري وحلقة الاتصال بين الشرقين الأقصى والأدنى، وإبلهم سفائن الصحراء حقيقة لا مجازاً، كما كانوا مخالطين لكل شعوب البحر الأبيض وشواطئ المحيط الهندي والخليج الفارسي والبحر الأحمر، ومطلعين على شؤون الأمم. فلما أدرك سادتهم وحكامهم أن دولتهم قد آذنت بزوال حصروا همهم في ملاينة النبي وإغرائه؛ فلما لم ينفع الإغراء والاستدراج لجأوا إلى التهديد والوعيد، ثم إلى المقاطعة والتضييق في شعاب مكة وغيرها، ثم التآمر والانتقام، فهاجر النبي من مكة، لأن