الله هداه إلى أن ما بقي من عمره المبارك كاف لتعميم الدعوة ومقاومة ذلك البلد القوي الشكيمة الذي تألب نساؤه ورجاله على النكاية به، ليحتفظوا بكيانهم القومي. كان المكيون محافظين ورجعيين فلم يرقهم أن يسلموا قيادهم للأحرار والمتطرفين من حزب محمد وأبي بكر وعلي وعمر وعثمان. وقد تعجب الأجيال التالية وأنسال المستقبل وأخلافهم كيف لم يقبل عرب قريش وخصوصاً أهل مكة على العقيدة الجديدة. والسر في ذلك أن أرستقراطية مكة حرصت على مالها وسلطتها ونفوذها وقوتها، ورأت في القرآن والدعوة المحمدية ما يزعزع أركان كيانهم الاقتصادي ويهدمه وهم أصحاب رؤوس أموال وعباد للمادة، حتى إن معبودهم هُبل لم يكن يتكهن إلا بعد أن يدفع السائل لسادته سلفاً دراهم معدودة. وكان للمال وأرباح التجارة وفوائد الربا واكتناز الذهب والفضة أكبر الشأن، ولكن محمداً وأصحاب محمد جعلوا المال في الدرجة الأخيرة من الاكتراث، واتخذوه وسيلة لا غاية (وقد روى عن حاتم الأصم تلميذ شقيق البلخي أنه سار إلى المدينة فاستقبله أهلها، فقال أين قصر رسول الله حتى أصلي فيه؟ قالوا ما كان له قصر، إنما كان له بيت لاطيء بالأرض. قال فأين قصور أصحابه رضى الله عنهم؟ قالوا ما كان لهم قصور، إنما كان لهم بيوت لاطئة بالأرض) وكثير من المؤرخين يغفلون العامل الاقتصادي في حياة العرب قبل الإسلام وبعده، مع أنه بجانب الثورة الاجتماعية التي أحدثها الإسلام قلب نظام المال رأساً على عقب، وحارب الرأسمالية، وحرم الربا، وقدح في البخل، وشرع الصدقة والزكاة، وحض على صلة ذوي القربى، ونظم المواريث ورتب حقوق المرأة، وألف القلوب بالبذل وبسط اليد للبعيد والقريب. وبالجملة أوجد طبقة جديدة من أوساط الناس لمقاومة عبادة المال، وحطم المثل العليا التي كان المكيون يمجدونها. ولم يكن هذا الانقلاب بالشيء القليل. والذي أغاظ أهل مكة وأحنقهم وأحرق أكبادهم أن محمداً بلغهم أن هذا التبديل ليس من عنده، ولكنه من عند الله، فهو أمر محتوم واجب التنفيذ، لأن إرادته أقوى من إرادة كل هذه الأوثان المعسكرة في الكعبة والمنتشرة في الحواضر والبوادي العربية.
- ٥ -
يدهش المؤرخ من قدرة محمد على مواجهة الشدائد والاضطلاع بأعقد المشاكل، فهذه المدينة التي هاجر إليها ولم يكن يعرفها من قبل إلا بالوصف والتصور بعد زيارته الأولى