للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

من الصحابة نفراً ضئيلاً وقع عليهم نعي الرسول وقوع الصاعقة فحاروا في أمرهم بعد أن ترك أكثرهم القتال ووهنت نفوسهم وألقوا بأيديهم؛ إذ ذاك، يدركهم الله بهذا البطل المجاهد المغوار، أنس ابن النضر يسألهم فيم جلوسهم والحرب قائمة؟ فيقولون: قتل رسول الله! فيزداد حمية واستبسالاً ويهتز من فرعه إلى قدمه وتتجسد فيه معاني الجهاد السامية فتتألق عيناه ويلتمع وجهه ويكاد دمه ينفر من عروقه وترتسم عليه سمات الصلابة والعزيمة والاندفاع ويفتر ثغره عن هذه الكلمات الملهمات تذكرهم بالواجب الذي ذهلوا عنه، وتحفزهم إلى الشهادة، وتدفع أجبن الناس إلى اقتحام الغمرات.

(فما تصنعون بالحياة بعده؟! قوموا فموتوا على ما مات عليه، أفلا تقاتلون على دينكم وعلى ما كان عليه نبيكم حتى تلقوا الله عز وجل شهداء) ثم قال: (اللهم إني أعتذر إليك مما صنع هؤلاء (يعني أصحابه) وأبرأ إليك مما صنع هؤلاء (يعني المشركين) انقضت على سامعيه لحظة كانوا منها في مثل لجج النور من كلماته، فألهبهم ودفعهم إلى الموت دفعاً؛ ثم انطلق نحو جموع المشركين فلقي في طريقه سعد بن معاذ فقال له: (يا سعد؛ الجنة! ورب النضر إني لأجد ريحها من دون أحد) ورمى بنفسه وسط الجموع الحانقة الظافرة، ضارباً وطاعناً، فأشرعت إليه الرماح وأصلتت عليه السيوف وسالت منه الدماء على جوانبه، وهو لا يحس لتلك وخزاً ولا يشعر لهذه بألم، ولا ينفك منقضاً على الأعداء مقتحماً صفوفهم، يوسعهم تقتيلاً وإثخاناً، غير آبه للرماح تتناوشه، ولا للسهام تنفذ فيه، ولا للسيوف تقطّع منه، وإنه مع هذا كله لا يرى انه بذل في الله طائلاً، وكلما ازداد الدم منه انصباباً زاد على أعدائه كراً وإقداماً حتى أكرم الله هذه الروح الزكية فسالت على قِصَد القنا وظُبي السيوف فأستأثر سبحانه بها، وأنالها ما تمنت من الشهادة لتنعم بلقائه وجواره في عليين.

ولقد أحمى بكلماته تلك أنوف المهاجرين والأنصار، فمشوا على أثره وكروا ثانية على العدو، واجتهدوا في القتال؛ إلا أن أحداً ما بلغ مبلغ أنس رحمه الله ورضي عنه، حتى إن سعد ابن معاذ - على ما أبلى في العدو يومئذ - ليحدث عنه بعد الحرب فيقول: (ما استطعت يا رسول الله ما صنع).

انقضت المعركة حافلة بضروب البطولة، وطفق المسلمون يتحرون قتلاهم لمواراتهم التراب؛ وإنهم لفي شأنهم إذ وقفوا على جثة لم يعرفوا صاحبها لأن السيوف والرماح لم

<<  <  ج:
ص:  >  >>