تبقعلى شيء من ملامحه قط. يا للهول ويا للبسالة! بضع وثمانون بين طعنة برمح أو ضربة بسيف أو رمية بسهم، يتلقاها رجل واحد فقط، ثم هو بعد ذلك لم يشف صدور أعدائه الحنقين عليه لما ملاء قلوبهم حرداً وغيظا من كثرة ما فعلّ فيهم، لم يُبرد أكبادهم كلُّ ما نالوا منه ولم يُذهب غيظ قلوبهم قتله، بل شوهوا الجثة ومثلوا بها، لقد بلغ من المسلمين هذا المنظر أمداً بعيداً ونفضهم نفضاً من شدة التأثر، وعظمت رغبتهم في معرفة صاحب الجثة، ولبثوا مدة لا يهتدون إليه، حتى تقدمت امرأة جاهدة تحدَّرت منها العبرات الحرار، وهي تحدق في أنامل الشهيد ثم قالت:(هو أخي أنس بن النضر، عرفته ببنانه!).
رجع المجاهدون الأبرار، الذين اصطفاهم الله رسلاً إلى الإنسانية المعذبة يفيضون فيها الرحمة، ويشيعون العدل والإحسان، رجعوا إلى المدينة يحفهم رضوان الله وتتنزل عليهم رحمته؛ وقد خلفوا في أحد سبعين بطلاً استماتوا بإخلاص ليجعلوا كلمة الله هي العليا، فنعمت أرواحهم بالشهادة. ولئن كان من بقى منهم على قيد الحياة قد أبلى البلاء الحسن وبذل طاقته ومجهوده. فإن الحسرة لتذيب كبده على أنه لم يحظ بما حظي به إخوانه من شرف الشهادة، ولم يخفف من حسرتهم إلا أملهم في أن يكرمهم الله بها فيما ينتظرهم من معارك.
لكن الله سبحانه رضي عن هؤلاء وأولئك، وأنزل فيهم قرآناً ما يزال الناس يتلونه والعبرات تجري غزاراً من مآقيهم، وما زال هذا الصوت الإلهي المقدس يهيب بالمسلمين والمستضعفين مدوياً في الآفاق:
(إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة يُقاتلون في سبيل الله فيقتُلوَن ويُقْتَلونْ، وعداً عليه حقاً في التوراة والإنجيل والقرآن، ومن أوفى بعهده من الله، فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به وذلك هو الفوز العظيم).
ونحمد الله على أن هذا الفيض المقدس من شرف الدفاع، ما زالت إمداده متصلة باستمرار، وما زال الشهداء يتوافدون على ميادين الجهاد؛ وما برحت هذه الطائفة المختارة من المسلمين تتكالب عليه الأعداء من كل جانب، وما انفكت عرضة لتألبهم وهمجيتهم وضراوتهم والله يمتحن الخلف بما امتحن به السلف، ويخص من شاء منهم بكرامته. ففي كل بلد إسلامي ميدان جهاد وشهداء دفاع، وفي كل بقعة عربية عدد مستبيح وقافلة تستشهد