للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الشمس عينيه فاصبح أعمى. وبعدما فقد بصره صار يكلم نفسه: (نور الشمس ليس سائلا، إذ لو كان كذلك لكان في الإمكان صبه من آنية في أخرى وتحريكه كما يحرك الهواء الماء؛ ولا هو نار، إذ لو كان ناراً لأطفئه الماء، ثم هو ليس روحاً لأنه منظور، ولا هو مادة لان المادة تنقل، وبما أن نور الشمس ليس سائلا ولا نارا ولا روحاً ولا مادة فهو إذن لا شيء).

على هذه الطريقة كان يحاور. وبنتيجة تحديقه المستمر في الشمس وكثرة التفكير فيها كما أسلفنا فقد بصره وعقله وأصبح لا يعتقد بوجود الشمس.

وكان لهذا الأعمى عبد يقوده، فلما اقتربا منا أجلس العبد صاحبه تحت شجرة وارفة، ثم التقط جوزة من الأرض وأخذ يصنع منها سراجاً: أبتدأ أولا بتقشير الجوزة، ثم أخذ ليفة فبرمها ثم عصر دهناً من الجوزة في القشرة، ثم نقع الفتيلة فيها فاصبح له من ذلك سراج يضيء له الظلام.

وهنا تنهد الأعمى وقال لعبده: (ألم أكن على حق حين قلت لك يا عبد أن لا وجود للشمس؟ ألا ترى هذا الظلام الدامس؟ ومع ذلك يقول الناس بوجود الشمس! إذا كان صحيحاً ما يقولون، فما هي؟)

قال العبد: (لا أعرف ما هي الشمس. تلك ليست مصلحتي، ولكني أعرف ما هو النور ها قد صنعت نوراً أستطيع به أن أخدمك وأن أجد كل ما أطلبه في الكوخ).

وهنا التقط العبد قشرة الجوز قائلاً: (هذه شمسي) وكان رجلاً اعرج جالساً وإلى جانبه عكازه ينصت إلى هذا الحوار الشائق، وما كاد يلفظ العبد كلمته الأخيرة حتى أغرق في الضحك وقال يخاطب الأعمى:

يظهر انك ولدت أعمى! ولما كنت لا تعرف ما هي الشمس فسأقول لك ما هي. الشمس كتلة من نار تخرج من البحر كل صباح، وترتفع ثم تهبط كل مساء، وتتوارى بين جبال جزيرتنا. لقد رأى الناس جميعاً هذا، ولو كنت بصيراً لرأيتها أنت أيضاً.

ثم أعقبه سماك كان يستمع إلى الحديث موجهاً الكلام إلى الأعرج:

(يظهر لي أنك لم تر ما وراء جزيرتك. ولو طفت كما طفت أنا في زوق الصيد لعلمت أن الشمس لا تغيب في جبال جزيرتنا، ولكنها كما تشرق من البحر كل صباح، تغيب في البحر كل مساء. إن هذا الذي أقوله لك صحيح لا شك فيه لأني أشاهده بعيني كل يوم).

<<  <  ج:
ص:  >  >>