الأدب إذن من أهم المقومات للشخصية؛ وربما كان الأصح أن أقول انه حجر الزاوية في تكوين الذاتية الفردية والذاتية القومية بالتبع. والفرق بين الشخصية والذاتية فيما أظن هو أن الشخصية تتكون مما يحيط بنا ويتقلب علينا من شؤون وأحوال، في حين أن الذاتية هي ما نظل عليه دائماً في صميمنا في جميع الشؤون وفي جميع الأحوال. فما أبعدنا بهذا التعريف عن التعريف الشائع أن الأدب هو المستظرف من الشعر والنثر، وأنه صناعة لفظية حذقت حيلة النكتة والتورية، واستسيغت منها البلاغة والحلاوة في وصف مجالس الانس، وتصوير جمال النساء، وشرح لواعج الحب والغرام. كل هذا من الأدب بلا ريب، وله أهميته، وهو ذو إغراء؛ ولكنه وجه فقط من الوجوه العديدة في الأدب. ولئن اقتصر كل من العلوم والمعارف على نفسه دون غيره تقريبا، فميزة الأدب في أنه يحتضن الكثير من المعارف والعلوم، وله أن يتغذى بها جميعاً ليعالجها على طريقته الخاصة، فلا يكون بعد إلا أدباً.
ولكم كانت المنتجات الأدبية والصور الخيالية سابقة للبحث العلمي ومعينته على الخروج من حيز القياس والافتراض إلى حيز التطبيق العملي والاختراع! أليس أن شاعرية الشعراء طارت إلى أجواز الفضاء قروناً طوالاً قبل اختراع الطيارات؟ وفيالق العشاق (والعشاق شعراء وأدباء دواماً)، ألم تناج أرواح الأحباب برغم شاسع الأبعاد قبل أن يصبح الراديو أداة من أدوات المنزل؟ ومن ذا الذي يقرأ ولو كتاباً واحداً من كتب الأديب الفرنسي جول فرن الذي وصف الانطلاق من الأرض إلى القمر وصفاً علمياً قبل أن يقوم علماء الستراتوسفير برحلاتهم الجوية، وحدث عن سلك أعماق البحار في سفن ذات أجهزة ميكانيكية دقيقة قبل أن تحتوي أساطيل الدول على غواصات ترقب ما يجري في قلب اليم وعلى صفحة الماء؟ من ذا الذي لا يذكر الكاتب الإنكليزي المعاصر ولز، ومؤلفاته ذات الصبغة العلمية المتنبئة بمستقبل حياة ميكانيكية صرفة تترتب عليها حياة اجتماعية متوافقة؟ لست من أشياع ولز، ولكني أشير إلى نظرياته شاهداً على رحاب الميدان للأدب
وإذا نحن عدنا إلى الكتب الدينية الثلاثة: التوراة، والإنجيل، والقرآن، وجدناها متفقة على جعل الفردوس الأرضي في شرقنا الأدنى. فكان لنا أن نقول إن مجد الآداب كمجد النبوات