وفرة جهوده وغزارة مادته ما فتئ مضعضعاً، غير واثق من نفسه، غير مستقر. فما هي حاجتنا اليوم من الناحية الأدبية؟
إذا كان الأدب صورة للشخصية العامة من خلال الشخصية الفردية الخاصة بحسناتها وسيئاتها، بحوافزها ومعلوماتها، بنورها وظلامها، بتقاليدها وأوهامها، بخوالجها وممكناتها، بيأسها ورجائها - إذا صح ذلك، وهو صحيح - فنحن نحتاج اليوم إلى صوت الأديب والى رسالة الأديب.
المعترضون يقولون: ولكن الأقطار العربية متعددة ولكل قطر حياته الخاصة ولهجته الخاصة. أفيكون إذن لكل قطر أدبه الخاص؟
كيف لا؟ وهل غير ذلك في الامكان؟ أو ليس هذا هو شأن سائر الآداب؟ أو تتكون الثروة الأدبية واسعة في اللغة الواحدة إلا بتعداد الآداب المحلية وتنوعها؟ أو ليس لكل من أمريكا، مثلا، وإنكلترا واسكوتلاندا وإيرلندا، أدب خاص مجموعها يكون آداب اللغة الإنكليزية عموماً؟ وفي كل هاتيك الأقطار الغربية لهجة محلية هي اللغة الإنكليزية، والشعب يتخاطب بلهجته وباللغة الإنكليزية، ويكتب بهذه اللغة وبتلك اللهجة على السواء. فعلام نحن نشكو مما يراه الآخرون شيئاً جد عادي؟ ومن المشاكل والمصالح والآلام والآمال ما هو مشترك بين جميع البلاد العربية. فرب زفرة حزن أو صيحة استبسال وجدت صداها متردداً في ملايين القلوب العربية ورب رسالة أدبية انطلقت من قطر واحد، فاجتاحت عديد الأقطار العربية المتناثرة من شواطئ الاطلانطيقي إلى خليج العجم أجل، نحن في حاجة إلى أقلام تخاطبنا باللغة العربية ببيان جميل يصور شخصية الأديب، ويشرح حالة الأمم، وينشر أمامنا صحيفة الأزمنة الثلاثة: الماضي والحاضر والمستقبل. فالماضي ينبثق انبثاق الينبوع فيخصب النفوس. وكما يكتنه الأديب ذخائر الماضي فكذلك هو يطلع على شؤون الحاضر، متصلا بكبار الحوادث التي تهز قومه في النقمة وفي النعمة، في السخط وفي الرضى، وإذ يرى الحوادث داخلة في دور الغليان، والشعوب فوارة صاخبة كالحمم في فوهة البركان، وإذ يشهد الظلم والعذاب والمرض والنفاق فيبحث عن الإنصاف والصحة والصدق والانشراح - عندئذ تتم في داخله عملية عجيبة، ولا العمليات الكيميائية. يخيل إليه أن موسيقى شائعة رائعة تنطلق من الأزمنة والحوادث والشعوب موحية إليه سر الفن الجميل