وأنا والله راض بأن يغضب علىّ أهل بغداد، فقد غضبوا على أبي طالب المكي فمنحوه الخلود
أنا أحب الخصومات لأنها تذكي عزيمتي، ومن أجل هذا أنظر نظر الجزع إلى مصير خصوماتي في بغداد، فلن يكون لي في بغداد خصوم بعد ظهور هذا الكتاب؛ وأنه لقادر على أن يفجر العطف في القلوب المنحوتة من الجلاميد. سيذكر أدباء بغداد أنني أحببت شاعراً هو من ثروة العروبة وثروة العراق. سيذكر أدباء بغداد أنني وفيت لمدينتهم السحرية حين اهتممت بشاعر كان اصدق من عرف النعيم والبؤس فوق ثرى بغداد
وكتابي هذا تطبيق لما شرعت من قواعد النقد الأدبي، تلك القواعد التي أذعتها في كتاب (الموازنة بين الشعراء)، وهو من اجل هذا لون جديد في اللغة العربية. وسيكون له تأثير شديد في توجيه الدراسات الأدبية، وقد يصلح ما أفسد الزمان من عقول الباحثين
وبيان ذلك أني لم أقف من الشاعر الذي أدرسه موقف الأستاذ من التلميذ كما يفعل المتحذلقون، وإنما وقفت منه موقف الصديق من الصديق. والتشابه بيني وبين الشريف الرضي عظيم جداً؛ ولو خرج من قبره لعانقني معانقة الشقيق للشقيق، فقد عانى في حياته ما عانيت في حياتي: كافح في سبيل المجد ما كافح وجهله قومه وزمانه، وكافحت في سبيل المجد ما كافحت وجهلني قومي وزماني
وهذا الترفق في معاملة الشريف ليس نزوة شخصية، وإنما هو وثبة علمية، فما كان يمكن أن أكون وفياً للبحث إلا أن سايرت الشاعر الذي أعرض عقله وروحه على تلاميذي. وهذه هي المزية التي أنفرد بها بين أساتذة الأدب العربي
سايرت الشريف مسايرة الصديق للصديق: فإن آمن آمنت، وإن كفر كفرت. أن جدّ الشريف جددت، وإن لعب لعبت. أن عقل الشريف عقلت، وإن جن جننت. أن قال الشريف أن غاية الرجل العظيم هي الحرب، قلت: صدقت. وإن قال: أن الحياة هي الحب، قلت: والحب الحياة!
ولكني مع هذا عاملته معاملة الصديق الأمين فنبهته إلى عيوبه بتلطف وترفق؛ نبهته تنبيهاً دقيقاً جداً لا يفطن إليه إلا الأذكياء، وفي بني آدم أذكياء. نبهته إلى عيوبه أكثر من ستين مرة؛ وما أظنه يحقد عليّ، لأن الصديق الذي في مثل حالي تغفر له جميع الذنوب