تلك هي خطبة لنكولن التي احتفل لها وافتتح بها عمله في المؤتمر؛ تراها وإن لم تصب بموضوعها موضع العطف من نفوس أعضاء المؤتمر، قد رفعت ذلك المحامي في أعين رجال السياسة، وعلم من لم يكن يعلم منهم مقدار ما أوتيه ابن الأحراج من قوة المبادهة ومتانة الحجة وفصاحة اللسان، ومقدار ما رزق من قوة الجنان ويقظة الوجدان، ورأوا فيه إلى جانب القصاص الذي لا يبارى، الخطيب الذي يعرف كيف يسحر السامعين وإن كانوا عن آرائه معرضين.!
وكم للتاريخ من مواقف تدعو إلى العجب! فهذا لنكولن اليوم في المؤتمر يندد بالحرب، وقد تعاظمه سفك الدماء وإزهاق الأنفس؛ وهذا لنكولن يقرر حق الشعوب في اختيار ما ترضى من الحكومات. . . ولسوف يتخذ أهل الجنوب في غد من أقواله حجة عليه؛ يوم يهمون بالانسلاخ من الاتحاد وهو يأبى عليهم ما يبتغون، ويعمد إلى الحرب فيصليهم ناراً حامية ويسفك الدماء ويزهق الأرواح حتى يكرههم على الاتحاد وهم صاغرون!
وتهيأت له الأسباب ليسير في البلاد فيزداد بالناس اتصاله ويستزيد منهم أعواناً له ومحبين. فلقد انتهت وهو في المؤتمر مدة الرئيس القائم أخذت البلاد تنتخب رئيساً جديداً؛ وكان حزب الهوجز الذي كان ابراهام من أفراده قد رشح للرياسة أحد زعمائه ويدعى تيلور. وهل نسى إبراهام تيلور وقد كان رئيسه في الحرب ضد الصقر الأسود؟ على أنه على الرغم من محبته لتيلور يأسف أن يراه ممن يتملكون العبيد على نمط أهل الجنوب. . . ولكن لا ضير الآن فهو ممن لا يريدون أن تزداد ولايات العبيد، كما أنه اقل من منافسة من الحزب الديمقراطي تشيعاً لمبدأ اعتناقه العبيد واضعف منه استمساكا به. . .
اخذ لنكولن يجوب البلاد شرقاً وغرباً ويخطب في الناس مؤيداً رجل حزبه؛ فكان إذا قام في جماعة لم يروه من قبل جذب إليه الأنظار بطول قامته وغرابة ملامحه، فإذا أطلق العنان لكلامه سرت في الجموع منه روح عجيبة لا يدرون كنهها وإن أدركوا فعلها. . . ورأوا عينيه تلتمعان حتى ما يعرف الناس أنهم رأوا مثلهما قبل، وأبصروا في ملامحه معاني ابلغ من كل كلام، واعمق أثراً من كل حجة. . . والخطيب ينتقل بهم من مثل إلى مثل ومن حكاية إلى حكاية؛ ثم يرسل الجملة بين حين وحين، فإذا هم يضحكون ملء نفوسهم؛ وهو في حماسته يشمر ردني حلته ويفعل مثل ذلك بقميصه. ولقد يحل رباط عنقه