ونزوعه إلى لامرتين وهو جو أخذ ينظم شعراً واقعياً حساساً. ولكنه استنفذ قواه، أو أن قواه كانت اضعف مما كان يظن، فأصابه بلاء في صحته، حتى أصبحت أعصابه المتوترة لا تستطيع أن تحتمل أية ضجة، لا وقع لحن ولا وطء قدم. وهذا بلاء تولد عن بلاء نفسي. فلقد كانت طفولته مشحونة بالأساطير، طافحة بالتقوى والاعترافات والصلوات! ولكنه شك فجأة وجرب باطلاً بأن يستعيد إيمانه، فكان أن فرّ الإيمان وأقبل الألم
فأخذ يجد في السياحة في أطراف البلاد طالباً التعزية لنفسه فكتب ونظم. . . وفى هذه الفترة أصاب وطنه أزمات اجتماعية عنيفة حتى أقوت القرى من سكانها، وعفت المدن بمن استهوتهم بألوانها. ولكن (فارهارم) عاوده الشفاء رويداً رويداً، فعاد يجد الحب والإيمان. أما الحب فلم يتكلم عنه إلا بمقاطيع محجبة ولكنه يبدي إيمانه به. فالمدن قد فتحت اذرعها إلى القرى لتخليها من أهلها ولكنها - برغم عيوبها وشرورها - قد أوجدت العزم والقوة. وإنها لقوة مشوشة، ولكنها جميلة مخصبة لأن البرية المنجذبة أخذت تموت. فلتترنم الآن بالقوة التي تحيي الموات. هذه هي ألحان الحياة الحاضرة. . .
ولكن شفاءه لم يجعل منه إنساناً صافى الشعور. فقد ظل على ارتعاشه وهيامه الباطل. وقد علمنا أن له - منذ طفولته - إحساساً عصبياً عنيفاً، وبعض الذكريات من هذه الطفولة قد ولدت فيه أنواعاً من حب الأسرار ناهيك بطغيان المخيلة عليه. وقد جرى خلف مدارس أدبية حديثة، فاستمد من شوبنهاور ومن بودلير ومن فرلين ومن مالارمي. فكان هو ومعه فئة من بني قومه أسسوا الفن الحديث في بلجيكا الحديثة، وكانوا ينشرونه في المجلات الرمزية. وهذه الرمزية كان مزاج شاعرنا يميل إليها
هنالك صور مفاجئة تتولد من نفسه في ظلمة نفسه بصيحة من نفسه، أو حلم أو حالة مجهولة، ومنها تتولد صور أخرى تحف بها فتكون قصيدة رمزية، لأنها ليست مظهراً عددياً للتأمل. ولكنها نوع من هذا الهيام الباطني حيث كل خيال يعكس حالة من حالات النفس، وكل نغمة تمثل فكرة موزونة
وهكذا قدر لشاعرنا أن يعبر في ديوانه (القرى الباطلة) و (البراري الهائمة) عما لا يقدر عليه شاعر آخر من معاني تفر من الوضوح ومن التعبير الواضح. فكان بهذا شاعر المطر والريح والسكون وكآبة الهجر والعزلة. وكان بهذا شاعر الكآبة المنجذبة الشاردة للأشياء.