الحرية أو الوطنية أو كرهاً للظلم. ولعل أكبر انتصار للنفس الإنسانية في المستقبل يكون انتصارها على نفسها بمنعها من الأجرام والقسوة الهمجية الوحشية عندما تغضب للحق أو الحرية أو الوطنية اكرهاً للظلم. أنظر مثلا ما ارتكبه ثوار الثورة الفرنسية من شرب للدماء، وتمزيق أجسام الأحياء، وأكل للحوم البشرية وسلخ لجلودها والتذاذ بإراقة الدماء والفخر بما كانوا يسمونه الغنائم والأسلاب من أحشاء نتنة ورءوس كانوا يضعونها على الرماح. ولم يفعل كل هذا أناس شرقيون ولا أناس من قبائل نيام نيام في أواسط أفريقيا بل أناس غضبوا للحرية وكرهوا الظلم وكانوا يدعون إلى الحرية والإخاء والمساواة والى محو الشر. وهذه الثورة الفرنسية كانت مقدمة للديمقراطية الحديثة، ولكن بعد أن كره العالم اسم الحرية زمناً وارتضي الحكومات المطلقة زمناً بسبب هذه الفظائع وهذه النذالة في الأجرام والقسوة
ثم انظر إلى فظائع الحروب الاستعمارية وفظائع الحرب الكبرى فقد قاسى من اجلها من المحاربين ومن الأطفال والنساء آلاماً كثيرة عدد لم يقاس مثله في الحضارات الشرقية بشهادة بعض المؤرخين الموثوق بقولهم وبشهادة المفكرين مثل هالدين وليوناردوولف
ثم أنظر إلى مستقبل الإنسانية وما هو منظور أن تقاسيه من الويلات بسبب الحضارة الأوربية وجشعها ومخترعاتها مما ينسي المفكر كل مظاهر القسوة في الحضارات الشرقية التي ينتقدها بعض المؤرخين الأوربيين. والحقيقة أن النفس الإنسانية في السلم والحرب وفي أعمالها وأقواله اليومية لا تزال اكثر ولوعاً بالقسوة مما يظن المستعرض لها بنظرية سطحية عجلي، كما هي اكثر لوعاً بالمجون وقصصه وأعماله مما يظن المستعرض للأكاذيب المقررة التي هي طلاء الحضارة والتي تخفي مظاهر القسوة والمجنون في أعمال النفوس البشرية
وإني ما ذكرت تنور المتوكل الذي عذب فيه وزيره محمد ابن عبد الملك الزيات إلا ذكرت الغلاف الحديدي ذا المسامير الذي كان يوضع فيه الأحياء في أوربا. وما ذكرت الرقيق في الدول الشرقية إلا ذكرت أن الرقيق كان شائعاً في أوربا وأمريكا إلى عصور قريبة، وإلا ذكرت أنه عندما بدأ الرحماء يدعون إلى تحرير الرقيق ووجدوا نصراً من رجال الدين في أوربا ألْفَوْا أعداء من رجال آخرين من رجال الدين كانوا يتذرعون بآيات من الكتاب