ويرى الجدران وعليها عبارات صارخة تلذع قلبه، ويسمع النواقيس تجلجل في الجو في نغمة حزينة كأنما أصبحت المدينة في مأتم شعبي وهو يحاول أن يخطب الناس وهم يرعدون في وجهه ويسلقونه بألسنة حداد، حتى يرغموه على الرحيل وقد امتلأ قلبه عليهم غيظاً كما امتلأ منهم كمداً.
وينتهي به المسير إلى سبرنجفيلد ولو كان يعلم الغيب لتحول عنها، ففي تلك المدينة سيأفل نجمه وسيبعد ما بينه وبين غايته. وكانت المدينة يوم وصوله إليها تموج بالناس إذ كانت في موسم سوق من أكبر أسواق الزراعة. ولقد خيل إليه أن له في وجود هذا الجمع الحاشد فرصة. . .
وكان حزب الهوجز يومئذ في الشمال في أخريات خطواته إلى الفناء؛ بينما كان يولد حزب آخر سيأخذ عما قريب مكانه هو الحزب الجمهوري؛ وكان لنكولن هو الرجل الذي اتجهت إليه أنظار أهل المدينة ليكون لسانهم في الحزب الجديد. لهذا ولما اشتهر به بينهم من خلال أكبروها، ولم يجدوا من هو أقدر منه على مدافعة دوجلاس؛ وهكذا التقى الرجلان من جديد في عراك عنيف ولم يلتقيا منذ كانا نائبين في مجلس المقاطعة
وقف دوجلاس يخطب، وكان وهو في صغر جرمه قزم أو كالقزم، مارداً جباراً برأسه الضخم ولسانه الذي لا يقف، ونشاطه الذي لا يفتر، ودهاؤه الذي لن ينخلع عنه، ومهارته التي لا تغيب ولا تتخلف مهما تعقد الموقف، والتوت مذاهب الكلام
ولقد كان دوجلارس في الحق من أقوى الرجال في عصره إن لم يكن أشد منهم جميعاً قوة، وكان الحزب الديموقراطي يباهي به ويفخر وهو يعتقد أن لم يبق بينه وبين كرسي الرياسة إلا خطوات مع أنه لم يكن قد خطا الأربعين بعد. . .
أخذ يخطب ويدافع عن رأيه في حماسة وكياسة وإنه ليشعر أنه يطلق آخر سهم في كنانته! وكان محور دفاعه أنه يعمل على توطيد سلطة الشعب: وكانت العبارات معسولة والحجج تلقى في روع السامعين أن لا سبيل إلى رفضها إذ لم يكن ثمة من سبيل إلى نقضها
وجاء دور لنكولن في اليوم التالي، واحتشد الناس ليروا ما عساه أن يقول في الرد على هذا الداهية، ووقف إن الإحراج يقابل الدهاء بالصراحة، والمكر بالصدق، والغرض بالإخلاص، والمراوغة باليقين، والباطل بالحق، والدليل الأعرج بالمنطق الأبلج، ومن