وراء هذا كله عبقرية دونها كل تأهب بل وكل كفاية، واستمع الناس إليه ثلاث ساعات وبعض الساعة ومنافسه يعض على نواجذه وينقم على تلك الأقدار التي ألقت به بين براثن ابن الغاية. . .
بدأ خطابه بقوله أنه لا يتوخى إلا الحق ولا رائد له إلا الصدق، فإذا أحس مستر دوجلاس خطأ فإنه ليسره أن يرده لساعته إلى الصواب. ولقد استغل دوجلاس هذا الحق وجعل يقاطعه بين حين وحين ليلويه عن قصده وليلبس عليه الأمر حتى ضاق لنكولن بتلك المقاطعة فصاح قائلاً: أيها السادة! إني لا أستطيع أن أنفق وقتي في مساجلات، وعلى ذلك فإني آخذ على نفسي المسئولية أن أحق الحق وحدي فأعفي بذلك القاضي دوجلارس ضرورة تلك التصحيحات العنيفة). . . وأخذ بعدها يتكلم والأبصار شاخصة إليه والسكون شامل مع شدة ازدحام المكان، والخطيب المرتجل لا يعرف اضطراباً ولا اعوجاجاً، يهدر كالسيل لا يصرفه عائق عن وجهه، وكأنما كان ينطق عن وحي، فما سمعه الناس من قبل يقول مثل هذا الكلام ولا رأوه يبين مثل هذه الابانة؛ وهو في حركاته وإشاراته ونبرات صوته موفق توفيقاً ما شهد الناس مثله من قبل
وفرغ من خطابه وهو في قلوب قومه أرفع قدراً وأكثر محبة عما كان ومنافسه مبتئس زائغ البصر، موزع الفؤاد بين كلمات الاستحسان تنثر على صاحبه كما ينثر الزهر وكلمات الاستهجان تصوب إليه كما تصوب السهام. . ونظر فإذا هو بما أدلى من حجج كالعنكبوت اتخذت بيتاً، ولم يبق في قلوب الناس من أثر لما ردده من عبارات معسولة تدور حول سلطة الأمة، إذ لم يترك له ابراهام دليلاً إلا سفهه وأظهر للناس ما يقوم عليه من بهرج وما يستتر وراءه من طلاء. وبهذه الخطبة فتح لنكولن فصلاً جديداً في تاريخ حياته وقطع شوطاً كبيراً عوض عليه ما فات من ركود. . .
ومهما يكن من تفوقه ونباهة شأنه في هذه الخطبة، فإننا نستطيع أن نعود بالسبب إلى حد كبير - على صفاته الأساسية التي فطر عليها، وفي مقدمتها تبين ما يعرض له والنفاذ إلى جوهره ثم الاستعانة بذلك على توضيح ما يريد أن يقول في يسر وبساطة ومع توخي الصدق والأمانة كما يفعل حين ينهض في المحكمة للدفاع، هذا إلى لقانه عجيبة يميز بها في سرعة الصواب من الخطأ والحق من الباطل، وذهن منطقي كأنه الميزان الدقيق يحس