وشتان بين السبيل التي سلكها شكسبير وبين الأصل الذي استرشد به. . وكذلك كان طه حسين يتناول الحادث الذي يمر به قارئ السيرة عجلا، دون ان يلفت نظره منه شيء، يتناوله ثم يأخذ في تصويره وتحليله وإبرازه وإظهاره وتقليبه على نواحيه، حتى يثب امام العين وثوبا، ويبدو ما في الحادث البسيط من حكمة وشعر، ومن قوة وسحر. واكبر شيء ساعد طه على تأليف كتابه هذا مقدرته على تبين الموقف الذي ينطوي على شيء كثير من الحكمة ومن الشعر، فيختار هذا الموقف ثم لا يزال به بصقله ويجلوه حتى يبديه للعين رائعا مجسما ملموسا. وقد خدمه التوفيق في الكتاب كله، فان الفصول، وان تفاوتت أحياناً، فإنها جميعا تشهد بحسن الاختيار، والإبداع في التصوير.
وقد أصبحت أشخاص هذا الحديث، وليست أسماء مجرة وألفاظاً مسطورة؛ بل كائنات حية بارزة نكاد ان نحسها ونراها تتحرك بين أي أيدينا: وقد أبدع طه أيما إبداع في وصف شخصية عبد لمطلب ووصف حياته منذ أن اخذ في حفر زمزم، إلى التقائه بابرهة الأشرم، إلى رقاده رقدة الموت بين الأبناء والأحفاد. يصف طه هذا كله فنرى الصور امام أعيننا ماثلة قوية لا لبس فيها ولا إيهام.
في الكتاب الشيء الكثير الذي يستثير الإعجاب ولكن اكبر ما يعجبنا فيه هذا الإبداع في تصوير الأشخاص عامة وشخص عبد المطلب خاصة، ثم هذه الحياة التي تنتظم المناظر والمواقف، بحيث يرى القارئ نفسه وقد نقل نقلا إلى ذلك الزمن وتلك الأمكنة.
وقف المؤلف في هذا الكتاب على (هامش) السيرة. لم يقف في وسطها ولا بعيدا عنها بل على هامشها. وقد كان من حسن التوفيق أن اختار هذا الموقف الذي مكنه من أن يبتعد عن السيرة أحياناً إذا دعا إلى ذلك داع: ثم يعود اليها بعد أن يطوف بالأفاق، معرجا على بلاد الروم والأحباش واليمن. وقد اضطر إلى أن يبتعد عن السيرة قليلا لكي يشرح لنا ماذا دعا ابرهة الأشرم إلى الإغارة على البيت الحرام في العام الذي قدر للعالم فيه أن يستقبل اكرم أبنائه وأشرفهم. فلقد جاء ابرهة من الحبشة إلى اليمن لكي يؤدب يهود اليمن على اضطهادهم للمسيحيين اللذين استوطنوا بعض جهاتها. . . وهذا كله اضطر المؤلف إلى أن يرينا كيف حلت اليهودية محل الوثنية، وكيف انتقلت اليهودية إلى بعض نواحي جزيرة العرب وكيف حملها (تبع) ملك اليمن وإلى صنعاء إلى اليمن. ثم كيف اخذت النصرانية