للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

إلى ما يقدمانه إليك من الحقائق، تقبلها بالشك ولا تجزم بصحتها، وإذن فهذه معلوماتك جميعا قد هدمت من أساسها. . . فما يدريك أن هذه الأجسام المادية موجودة حقيقية؟ وما يدريك أن الله موجود؟ ثم ما يدريك أنك أنت نفسك موجود؟ ستقول العقل أو الحواس: كلا، لا تفعل. فقد تبين لك أنهما كثيرا ما يكونان مبعث الخطأ والزلل، ولا يحتمان الحق واليقين. . إذن فلا تتردد في أن تنزع من نفسك جميع العقائد والآراء والأفكار، وأفرض أن كل ما يصادفك باطل ليس له وجود، ولا تصدق ما تمدك به الذاكرة الكاذبة والحواس الخادعة؛ وأدَّع أن الجسم والصورة والامتداد والحركة والمكان كلها من خلق الخيال. فما الذي يبقى من الحق بعد؟ لا شئ: اللهم ألا حقيقة واحدة، ستصمد لهذا الشك الجارف، وتظل ثابتة لا تميل أمام عاصفة الأفكار والجمود، لا بل تزداد يقينا كلها أمعنت في الشك والإنكار، تلك هي أن هناك شخصا يشك!. . أرفض الحقائق، وشك في صحتها ما وسعك الرفض والشك ولكنك لن تستطيع أن تشك في أنك تشك.

نعم مهما شككت فلست أنكر أني أشك، ولما كان الشك ضربا من ضروب التفكير، أذن فلا شك أني أفكر. وبديهي أي لو لم أكن موجودا لما فكرت، وأذن فأنا موجود وليس في وجودي شك

(أنا أفكر فأنا إذن كائن) تلك هي القاعدة الأساسية التي اتخذها ديكارت أساسا قديما أقام عليه فلسفته بأسرها. ويلاحظ أن إثبات الوجود هنا لا ينصب إلا على العنصر المفكر من الإنسان ولا يتعداه إلى الجسم، ذلك لأنه أثبت وجوده بناء على وجود تفكيره، أي عقله، ولم يقم الدليل بعد على وجود الجسم. ولكن مالنا وللجسم الآن؟ هانحن أولاء قد حصلنا على العقل وأيقنا بوجوده، وهو أساس المعلومات جميعا، وحسبنا ذلك لنهتدي عن طريقه إلى معرفة الحقائق التي ننشد، وهكذا بدأ ديكارت بالشك إلى حيث انتهى إلى اليقين. وقد قال قائل: (كلما فكرت ازددت شكا) فعارضه ديكارت بقوله: (بل كلما شككت ازددت تفكيرا، وازددت بالتالي يقينا بوجودي).

حقا لقد انتزع ديكارت من غمار الأنقاض التي ركمها الإنكار والشك، يقينا لا يأتيه الباطل، ذلك أنه هو موجود لا ريب في وجوده. ثم يقرر أن كل حقيقة يستطاع إثباتها بمثل هذا اليقين القاطع، لا يجوز له أن يتردد في اعتبارها حقا لا يقبل الشك. ثم يستطرد قائلا أن

<<  <  ج:
ص:  >  >>