للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

وهنا نقطة الخلاف في بحثنا

إن مناظري يقول بكل جلاء إن المدنية الغربية مستمدة من الثقافة الآرية العلمية، في حين أن الشرق العربي يتوه ذاهباً وراء خياله

إذا صحت هذه المقدمة فللمناظر ملء الحق بدعوة مصر إلى الانسلاخ عن شرقيتها وعروبتها للأخذ بالعبقرية الآرية التي يراها مبعث العلم الصحيح ومنشأ التفكير النير المصيب، ولكن الأمر ليس كذلك، وإليكم البرهان أسنده أولاً إلى حقيقة نطق بها مناظري وأغفل الاسترشاد بها؛ فهو يقول إن عصرنا عصر العلم، ولقد بدأ ذلك العصر بثورة نفر من رجال القرن السادس عشر على العقلية القديمة التي تبحث عن علل الأشياء الأولى فسيروا سنن الطبيعة وأقاموا عليها المدنية الغربية مستمدة من الذهنية الآرية

إذاً إن أصحابنا الآريين كانوا يغطون في نومهم، ولم تزل تراود أحلامهم الآلهة التي خلقتها عقلية التعاون فيهم فبلغ عدد هؤلاء الآلهة الثمانية آلاف في الأساطير التي يراها المناظر غنية بالرموز والفن، وما هي في نظر الشرقي العربي إلا دلالة فقر مدقع في التفكير وجموح في خيال لم يدرك شيئاً من الوحدة التي تقوم حقائق الأشياء عليها

وفي هذه الأثناء كانت الحضارة العربية تحتضن العلوم القديمة وهي ممثلة بأرسطو في الاستقراء، وبأفلاطون في القياسات العقلية. وما كانت هذه العلوم في ذلك العصر إلا في طور التدرج الأولى فاستولى عليها التفكير العربي لا ليدفعها إلى الارتقاء فحسب بل ليستنبط ويعدل ويوجد. ومما يجدر ذكره هو أن العرب حين اقتبسوا من تراث اليونان ما يعززون به تفكيرهم العلمي لم تستهوهم الثقافة اليونانية ولا حضارتهم الأدبية إذ أحسوا بما بين الحضارة التي كانت تتمخض في شعورهم وتقديرهم للحياة وبين حضارة اليونان الاجتماعية من مهاو سحيقة فأعرضوا عن شعرهم وموسيقاهم ونظم اجتماعهم؛ لذلك لا تجد في شعر العرب شيئاً من إبهام بيندار وأوريبيد وهوميروس، وهذا الأخير بقي مجهولاً حتى ترجمه البستاني في أوائل هذا القرن

فقد برز العرب من تقدمهم في علوم الآلات وتوازن السوائل ونظريات الضوء والإبصار والهندسة وعلم الهيئة فوضعوا علم الكيمياء واكتشفوا أجهزة للتقطير وأوجدوا الإسطرلاب ووضعوا جداول الأوزان النوعية والأزياج الفلكية؛ وهم واضعوا علم الجبر والأرقام. وما

<<  <  ج:
ص:  >  >>