الخضراء تنساب خلالها شعبة من الماء الضحل، فتظهر فوقها كالحسام الصقيل فوق بساط بديع الوشى والحياكة تجثم فوقه أسراب الطيور البديعة الألوان، المختلفة الحجوم، الساحرة التغريد. إن منظر بترا من وادي موسى لمن المرئيات الجميلة التي تتوثب لها أحاسيس الحيوان الأعجم الهامد الشعور، فكيف بفعلها في الإنسان ذي الخيال المتوثب، والإحساس المتيقظ، والشعور المرهف؟ وإن زورة هذه الأطلال الخالدة لأسنى ذخيرة يقدمها الشاعر إلى خياله، والأديب إلى أدبه، والرسام إلى فنه، والعالم إلى سجله ومذكراته
يخرج السائح من وادي موسى ممتطيا فرساً يقودها دليل بدوي ماهر في حفظ الأسماء والمسميات، ذكي يفهم من الإشارة الموجزة؛ فيشاهد بعد مسير نصف ساعة قبور (بيلون العظيمة) وهي في طليعة الآثار، وتتركب من حجر عديدة تزينها الأعمدة الجميلة المحفورة في الصخر الرملي الجميل، والمسلات (المصرية الهندسة) الضخمة المدهشة، تقوم بينها طائفة من التماثيل الفنية التي ما تزال على روعتها وجمالها كأنما هي من عمل اليوم؛ لم نشهد من الزمان احداثاً، ولا من الأيام عبثاً ودولاً. ومما هو جدير بالذكر والمشاهدة عند زيارة هذه القبور مشاهدة صورة الحية الجميلة الرائعة التي تبلغ ثلاثة عشر متراً طولاً، والتي يتفرع من عنقها سبعة رؤوس فاغرة الأشداق حتى لكأنما قد رتبت لازدراد فريسة سائغة. وصورة أخرى تمثل جواداً، وقد شدّ عليه سرجه وقرط لجامه، وامتطى صهوته فارس لم تبق الأيام من هيكله الرمليِ سوى بعض أطراف رأسه المهشم وأصابع قدمه المبتورة
السيق
ويبعد عن قبور بيلون مسافة ١٥٠ متراً تقريباً، وهو نفق يخترق جبلين رمليين عظيمين، كثير المنعطفات والتعاريج، يبلغ أقصى اتساعه أحد عشر متراً، وقد يضيق في بعض الأماكن حتى لا يكاد يتجاوز الأربعة أمتار، وبالرغم من وعورة هذا النفق فإن خيول وادي موسى لاعتيادها عليه تسير فيه بكل سهولة. يبلع طوله ميلاً وبعض الميل؛ والراجح أنه كان مرصوفاً بالبلاط الرملي الجميل الذي لا يزال مطموراً تحت كثبان الرمال ورواسب المياه المتدفقة، التي كانت تخترقه مارة من وادي موسى، حتى تصب في وادي العربة. وحوالي عام ٥٠ ق. م. عندما بنى الرومانيون معبد إيزيس في نهاية السيق (أنظر شكل١)