رسام لا يمكنه أن يصور من المرئيات غير خطوطها الأولية.
إن الموسيقى الغربية رست على الطباق أو المطاوعة فكان لا بد لها من كبت النبرات الدقيقة المتمردة على الطباق ومن الاكتفاء بنغمات معدودات هي محل ثروتها. أما الموسيقى العربية فأنها هتاف عميق من النفس منفردة تجاه الوحدة المتجلية في مسلهمات الشرق ديناً وفناً. فهي وإن نقصها الطباق لعدم ملاءمته لحريتها ودقة نبراتها لا تزال حتى في دور انحطاطها اليوم، أغنى بأوزانها ونغماتها من الموسيقى الغربية الفنية بالصخب والفقيرة بالتنوع المنفرد!
إما أن تكون موسيقى الطبيعة أشبه بالموسيقى الغربية كما يقول المناظر فذلك ما لا نوافقه عليه ولبس في الطبيعة أجواق تتوافق على الهتاف بنشيد يطربك فأنك إذا ما أصغيت إلى بلبل واستسلمت نبراته المتناسقة الصافية وهو منفرد يذهب إنشاده إلى أغوار مشاعرك فتشاركه بما يلهمه النشر من شعر حنينه كلمات وتلاعبه معاني لا يدركها إلا المستغرق المطل على وحدة الوجود. ولكنك إذا وضعت عشرين بلبلاً أو عشرين مداحاً من أنواع الأطيار وأطلقوا جميعهم أصواتهم فعندئذ ندرك أن الطباق ليس من روح الطبيعة بل هو من أوضاع فناني الغرب الذين لم يهتدوا إلى الوحدة المليئة بالتنوع فاخترعوا لهم موسيقى مبنية على المطاوعة ليسدوا مجاعة إنشادهم المركب الفقير
وما أطول ما أقوله عن جهل للموسيقى الغربية فأنني قد ألفتها منذ كنت طفلاً وقد ألقت أناملي طويلاً استنطاق أوتار عودي العربي فأنا أفهم الأنغام التي قسمها الفارابي كما أفهم موسيقى موزار وبيتهوفن بل وموسيقى باغ أيضاً. ويمكنني أن أؤكد لكم أن الفن الغربي على ما بذل فيه من جهود لا يرتكز على أساس من الموسيقى الطبيعية التي تتجلى بكل روعتها في الإنشاد العربي المنفرد. ولو أن رجال الفن عندنا أدركوا هذه الحقيقة وانصرفوا إلى شرقية موسيقانا على أساسها دون أن يستهويهم ما يتوهمونه رائعاً في الموسيقى الغربية لكانوا ينتزعون من الطبيعة أروع موسيقاها ولكن أكثرهم كمن لديه ثروة يطبق خزانته عليها ليذهب مستجدياً من الغريب كسرات تتخمه ولا تسد جوعه
لعلني بعد هذا البيان الموجز تمكنت من إقناع مناظري الكريم