وأعدم. . . ولقد قابل الموت بجنان ثابت ونفس هادئة. ولما حانت منيته استنزل لعنة الله على الظالمين أعداء الحرية. . .
واغتدى جون بجرأته ثم بميتته هذه بطلاً عند دعاة التحرير في الشمال؛ وأخذوا ينظمون الأناشيد في بطولته ويجعلونه رمزاً لأحرار الشمائل ومثالاً يجب أن يحتذيه كل من كان له قلب يخفق بحب الحرية. . . ويرى دوجلاس في هذا الحادث فرصة يحذر أن تفوته، فيعلن أن ذلك ليس بعجيب فلن تفضي مبادئ الجمهوريين إلا إلى مثله. . .
وأدرك لنكولن خطر التهم، ولو كان غيره مكانه لأخذته مما رمى المارد الصغير ورطة؛ ولكن صوت الحق لا يضيع في ضجيج الباطل؛ فهذا لنكولن يتلقى دعوة من جماعة في نيويورك فيلبي مسرعاً ويلقي خطاباً من أبدع وأروع ما وانته به عبقريته وفي جمع لم يسبق أن وقف في مثله
احتشد لسماعه في تلك المدينة العظيمة جمع من كبار الساسة وقادة الرأي وذوي الثقافة وأساطين الصحافة، فكان لهذا الحفل بهم مهابة وجلال وخطر. . . واحتشد كذلك عدد هائل من عامة الناس ليروا لنكولن، هذا الذي كان يشتغل نجاراً أول ما نشأ فاستطاع أن يرقى حتى يقف من دوجلاس الشهير موقف الند من نده وأن يظهر عليه في الخطابة والمجادلة. . .
ولقد ارتاع فؤاده عند ما بلغ مكان الاجتماع وذلك حينما رأى هؤلاء السادة في ملابسهم الأنيقة، ورأى في وجوههم نضرة النعيم وفي أحاديثهم وتحياتهم روح المدنية؛ ولما نهض للخطابة شاهد بعض الناس علامات الحيرة عليه، فقد كان على غير ما ألف مشغول البال بملابسه المتهدلة العتيقة التفصيل والحياكة والتي تبدو بمقارنتها بما يقع عليه بصره كأنما جيء بها من متحف
وتطلع عامة الناس إليه في دهشة، وتقسمت ألحاظهم بين قامته الطويلة ويديه الكبيرتين اللتين تدلان في جلاء على أنهما خلقتا للمعول لا للقلم، ووجهه المصفار المسنون الذي تغشاه سحابة عميقة من الهم، وعينيه الواسعتين اللتين تعبران عن وداعة الأطفال وحماسة الأبطال، وأنفه الأشم الغليظ الذي يترجم عن صرامة عزيمته وشدته في الحق، وشعره الأشعث الذي يعلو رأسه الكبير في غير نظام كأنه ألفاف الغابة. . .