يردعه خلق، فقال وكأنما الحقيقة تمثلت له قبل وقوعها.
- أماه! إني أخاف إن قتلني أهل الشام أن يمثلوا بي
ورفعت ستر المستقبل المغيب عن عين الأم فرأت ابنها مصلوبا، وتمثل لها ما سيلاقيه المصلوب من احتقار وتشهير وضحك واستهزاء، ولكن الحق. الحق وروح من سفكت دماؤهم في سبيله أملت عليها الجواب
- الشاة المذبوحة لا يؤلمها السلخ. فامض على بصيرتك واستعن بالله.
سرت روح الأم إلى ابنها فقشعت من صدره كل يأس وكل خوف، وظلت كلماتها تتردد في نفسه كوجيب قلبه، القتل أحسن، القتل أحسن، حلت الشجاعة محل اليأس، وحل جلال الحق محل الخوف من الموت والمثلة. لم يعد يألم لشيء إلا لتلك الثكلى التي ستفقده بعد فقد أخيه بالأمس.
- أماه إني مقتول يومي هذا فلا يشتد حزنك وسلمي الأمر لله، إن ابنك لم يتعهد إيثار كفر ولا عمل بفاحشة، ولم يجر في حكم الله، ولم يغدر في امان، ولم يتعهد ظلم مسلم أو معاهد، ولم يبلغني ظلم من عمالي فرضيت به بل أنكرته، ولم يكن شيء عندي آثر من رضى ربي.
ثم رفع رأسه إلى السماء قائلا:
- اللهم لا أقول هذا تزكية لنفسي ولكن أقول تعزية لأمي حتى تسلو عني
خيم الصمت على الأم وولدها وقد أحست أنها ستراه لآخر مرة كما أحس هو بذلك. وترقرق الدمع حارا ملتهبا في عين العجوز. الدمع الذي ظل محتبسا من أهوال الأيام الأخيرة انفجر في الموقف الذي يجل عن كل دمع.
بدأ ابنها يحس شيئا من الإحجام بعد أن صمم على القتال والاستشهاد، وخاف أن يستولي عليه هذا الشعور إن لم يسرع بتنفيذ ما صمم عليه. وكأن الأم ما زالت بروحها تدفعه إلى الاستشهاد كما حضته بقولها منذ قليل فأسرع نحو الباب بعد أن قبلها قائلا
- (أماه لا تدعي الدعاء لي)
- (لا ادعه لك أبدا) وكأنها تريد أن تذكره فقالت
- (فمن قتل على باطل فقد قتلت على حق)