فلا بد من سبب ولا بد من باعث، ولكننا نحن الآدميين جميعاً نعمل ولا نكلف عقولنا تبيين أسبابها، وإن كنا نبالغ في سؤال الآخرين عن الأسباب
وقد يسهل على الأكثرين أن يعرفوا أسباب ما يعملون إذا استقصوا هذه الأسباب. أما الذي يصعب على الأكثرين فهو عرفانهم أسباب مالا يعملون، كأنما يحسبون أن الإنسان يترك جميع الأعمال لغير سبب، أو أنه لا يحتاج إلى الأسباب إلا عندما يعمل شيئاً أو يشرع في عمل شيء، فأما أن يكف عن العمل أو عن الشروع فيه فذلك طبيعة لا تحتاج إلى سؤال
هذه حالة إذا أفرطت من إحدى جهتيها انتهت إلى الإباحية التي تتساوى عندها جميع البواعث والدواعي، أو إلى الإباحية التي وصفها ابن المعتز في قوله:
قليل هموم القلب إلا للذة ... ينعّم نفسا آذنت بالتنقل
يعب ويسقي أو يسقى مدامة ... كمثل سراج لاح في الليل مشعل
ولست تراه سائلا عن خليفة ... ولا قائلا من يعزلون ومن بلى
ولا صائحا كالعير في يوم لذة ... يناظر في تفضيل عثمان أو علي
وهي حالة قريبة مما نراه من قلة المبالاة أو قلة التمحيص أو قلة (التدقيق) على حد تعبير أبناء البلد - عند أناس كثيرين في العصر الحاضر يعملون وينظرون إلى غيرهم يعمل ثم لا يسألون ولا يفكرون. . . وهذا إن كانوا يعملون وينظرون.
أما إذا أفرطت هذه الحالة من جهتها الأخرى فنهايتها إلى الوسواس والمراجعة في كل شيء والمحاسبة على أهون الأمور، والتردد بين الخواطر حتى لا إقدام ولا إحجام ولا فائدة من الإقدام والأحجام.
إنما الحد القوام بين هذا وذاك أن يكون المرء قادرا على تعليل عمله والنفاذ إلى باطن مشيئته، لأنه متى قدر على ذلك استولى على زمام نفسه، وقبض على سكان سفينته في زعازع هذه الحياة. فمن عرف لماذا يعمل عرف كيف يجتنب العمل إذا وجب عليه اجتنابه
وعرف كيف يقنع به غيره إذا حسن عنده إقناعه
وعرف كيف يصنع على مثال أجمل وأكمل إذا لاحظ تقصيرا فيه
وكذلك من عرف لماذا لا يعمل شيئا من الأشياء، فانه خليق أن يروض نفسه على عمله متى عرف سهولة المانع أو عرف ما فيه من مؤاخذة ونقيصة. وخليق أن يفهم دواعي