تعب كثيرا في التقصي والبحث إلا أنها لم تصر جلية في ذهنه كما يجب، فأفاض الشيخ في شرح هذه النظرية ببيانه المعروف عنه، وتوضيحه وتذليله وتصويره للحقائق في أيسر صورها، حتى ترك صاحبه ومن كانوا معه يقولون: كأن دارون لم يفض بحقيقة نظريته إلا له، فاختصه الله القدرة على تفهيمنا.
وحدث صديق له قال: صحبته وبعض خلصائه يوماً إلى دار الخيالة؛ وما كدنا نصل إليها حتى أبدى أحدنا غرابة مما وصل إليه العلم من عرض الصور الصغيرة وتكبيرها؛ ثم تسجيل الصوت؛ فما كاد يسمع منه ذلك حتى أنطلق يشرح لهم نظريات عن فن التصوير والعدسات وأنواعها وكيفية استعمالها، ثم عن التقاط الأصوات في (الاستوديوهات) وما يعانيه الممثلون والممثلات. والتفت حوله جمع من الناس وأقبلوا عليه بمجامعهم، يستمعون منه، معجبين به، بل ود بعضهم لو أبطل صاحب الخيالة خيالته ليتم له حديثه.
من ذلك تعلم أنه تبوأ مكانه بجدارة بين علماء عصره. وكان ركناً عظيما تعتمد عليه وزارة المعارف والمجمع اللغوي والهيئات العلمية والأدبية.
وكان إذا أراد أن يعالج موضوعاً عالجه غيره من المحدثين لا يطلع على ما كتبه ذلك الغير إلا بعد أن يكتب. وكان في كبره لا يهاجم من يخطئون كما كان يفعل أيام شبابه، ولكنه كان يرد عليهم في أثناء بحثه من غير إشارة إليهم ومن غير أن يمسهم من قرب أو من بعد.
وكان موضع الثقة من كثير من العلماء الأعلام، يراسلونه ويستفتونه في كثير من المسائل التي يشتبه عليهم الأمر فيها، أو لا يهتدون إلى مصادرها، ومن هؤلاء الفضلاء الأب أنسطاس ماري الكرملي؛ فإن رسالاته لم تنقطع عنه حتى في أيام مرضه الأخير. وكان الأب على جلالة قدره يعترف له بالفضل والأستاذية، كما كان يعترف غيره. كتب إليه يوماً يقول:(. . . جاءني كتابك وفيه من سبحات النور ما جعلني أدعو الله أن يزيدك فضلاً وعلماً للمستجيرين بك واللائذين إلى بحر عرفانك الجم. ولو كان في الإسلام في عصرنا هذا عشرة مثلك في مصر. لانتقل الحنفاء جميعهم إلى هذه الديار المباركة للاقتباس من فيض نورك المتدفق. . . الخ).
وكان في جلسات المجمع الأصلية والفرعية إذا أشكل أمر أو أظلمت مسألة خرج هو على الأعضاء بما يزيل اللبس ويكشف الغموض والإبهام. وكانوا جميعاً يعترفون له بالسبق،