لبعض ما قدمت من الحديث عن شئونه الخاصة في هذه الفترة من حياته. وكانت مقالته الأولى بعد هذه الدعوة، هي مقالة (لا تجني الصحافة على الأدب ولكن على فَنِّيَّته)
وتوالت مقالات الرافعي بعد ذلك في الرسالة، فنشر في الأسبوع التالي مقالة (الإشراق الإلهي وفلسفة الإسلام) وأحسبه اختار هذا الموضوع - على انقطاع الصلة بينه وبين الموضوع السابق - احتفاء بالمولد النبوي؛ إذ كان هذا موسمه
ثم نشر (موت أم) وهي صورة حية نابضة لصبْية فقدوا أمهم وما يزال أكبرهم في الثامنة؛ وهي صورة حقيقية مرَّت أمام عينيه فانفعلت بها نفسه؛ أما هذه الأم فهي زوج صديقنا الأستاذ حسنين مخلوف، وأما هؤلاء الصِّبية فبنوها؛ اهتصرها الموت في ريعانها فمضت وخلَّفت وراءها أربعة، فبكاها الرافعي بكاء الوالد؛ وما أعلم أنه مشى في جنازة قبل جنازتها، ودفنت في مقبرة آل الرافعي بطنطا. ولما عاد الرافعي من الجنازة ليعزي الأستاذ مخلوفاً في داره، دعا بولده ليمسح على رأسه ويسرِّي عنه، فكان بين عينيه وعينيَّ الطفل حديث طويل؛ فما غادر مجلسه إلا ورأسه يفيض بشتى المعاني وقلبه يختلج بفيض غامر من الألم، وعيناه تترقرق فيهما الدموع!
وروَّح إلى داره فجلس إلى مكتبه يفكر. . . ومضى يوم ثم أرسل يدعوني إليه فأملى عليَّ (موت أم!)
وكان في الأسبوع التالي موعد امتحان الشهادة الابتدائية فكانت مقالته (حديث قطَّين) وإنها لتتحدث بنفسها عن مناسبتها. وإن فيها لشيئاً من خلق الرافعي لم يكن يعرفه إلا الخاصة من أصحابه، ذلك هو طبيعة (الرضا) بما هو كائن؛ فقد كان ذلك من ألزم صفاته له؛ فكان دائماً باسماً منبسط الوجه، يقنع نفسه في كل يوم بأنه في أسعد أيامه؛ فمن ذلك كان يحاول أن يجعل من كل ألم يناله لذةً يُشعر بها نفسه، ومن كل فادحة تنزل به خيراً يترقبه ويهيئ له. ولعل أحداً لا يعرف أن الرافعي لم يكن يرى في تلك العلة التي ذهبتْ بسمعه وما يزال غلاماً، إلا نعمةً هيأتْه لهذا النبوغ العقلي الذي أملى به في تاريخ الأدب فصلاً لم يُكتب مثُله في العربية منذ قرون! ولا شيء غير الإيمان بحكمة القدَر وقانونِ التعويض يجعل الإنسان أقوى على مكافحة أحداث الزمن فلا تأخذ منه النوازل بقدر ما تعطيه. . . وذلك بعض إيمان الرافعي!