وحين زعم زعم لنفسه وللناس أن رأيه ذلك إنما بناه على البرهان والدليل
إن الناقد الحق كالقاضي العدل، من أظهر صفاته وأوضح إماراته أن يطبق قانونه تطبيقاً واحداً على المتخاصمين. قد يكون للقانون الذي يطبقه القاضي معيباً في ذاته، لكن القاضي لا يسأل في العادة عن ذلك وإنما يسأل عن التطبيق. وقد يخطئ القاضي في التطبيق لكنه على أي حال يجب ألا يخطئ الروح روح الإنصاف والتسوية بين الناس عند تطبيق القانون. والناقد كالقاضي في هذا الشرط شرط وجوب التزام روح الإنصاف والتسوية بين الخصوم عند تطبيق معايير النقد، إلا أن الناقد له على القاضي مزية التمتع بقسط غير قليل من الحرية في اختيار معاييره ومقاييسه في حين أن القاضي لا يملك شيئاً من الحرية في اختيار القانون الذي يحكم به بين الناس. فالناقد والقاضي متساويان في تبعة الروح الذي به يطبقان ما بيدهما من أصول وقواعد، لكن تبعة اختيار هذه الأصول والقواعد إذا أعفي منها القاضي فلا يمكن أن يعفي منها الناقد كل الإعفاء، بل ولا بعض الإعفاء عند التحقيق
والقواعد التي جرى عليها الكاتب في المفاضلة بين الرافعي والعقاد وفي محاجة المنتصرين للرافعي ممكن استنباطها في سهولة من تضاعيف كلامه، لكنا لا نريد الآن أن نحاسبه على قواعده ومعاييره ومبلغها من الصحة والدقة، ولكن نحاسبه الآن على الحد الأدنى من تبعة الناقد وهو القدر المشترك بين الناقد والقاضي من تبعة التسوية بين الخصوم في تطبيق الأصول والقواعد مهما تكن تلك القواعد والأصول
لكنا لا نكاد نشرع في قياس كفايته في النقد ونزاهته في الحكم بهذا الحد الأدنى الضروري حتى يتضاءل وينزوي عنه سجل النقاد كما يتضاءل القاضي وينزوي إذا حاكم الخصمين في المسألة الواحدة إلى غير قاعدة أو مادة واحدة وغلب ذلك عليه في قضائه بين الخصوم
فناقدنا لم يقترف في نقده جرماً أقل من كيله بمكيالين وتفكيره بمنطقين في حكومته بين الطرفين في الموضوع الواحد والنقطة الواحدة، فله ولصاحبه منطق ومكيال، ولخصومها في نفس الموقف ونفس الموضوع منطق آخر ومكيال آخر. والقاعدة في ذلك - على ما يظهر - أن يكون الحكم دائماً لمن يحب على من يبغض. وإليك من ذلك أمثلة في غير إطالة ولا استقصاء
يرى الكاتب أن العريان أساء تقدير العقاد لأنه لم يختلط بالعقاد أولاً ولم تنفتح نفسه لأدب