وهو لا يبعد كثيراً عن المدى الذي تصورته له) وليس في هذه العبارة شيء حتى تأتي إلى آخرها فتنقلب دلالتها عندك ويصبح الرافعي المسكين بين صديقه وعدوه قد اجتمعا في الجملة على تجريحه وذمه وكاتبها لا يكلف نفسه بها شيئاً، فهو يلقيها دعوى عريضة ثم يتحقق بعد ذلك من صحتها من شاء أو لينقضها من شاء! أما هو فلا يكلف نفسه من إثباتها شيئاً، ويكفيه أن ينتفع فيها بالإيحاء النفسي معتمداً على تصديق القارئ إياه فيما يلقي في روعه عن تصوير صديق الرافعي لبواعث الرافعي على نقد وحي الأربعين. وأكثر القراء حتى من أنصار الرافعي لا يجشمون أنفسهم اختبار صدق دعوى سيد قطب هذه بعرضها على ما قال العريان في موضعه من فصوله في تاريخ الرافعي، فيمر أكثرهم وقد وقر في نفوسهم شيء من هذا الاتفاق ولو في الجملة بين صديق الرافعي وعدوه على تجريح الرافعي.
إنك تقرأ تاريخ نقد الرافعي وحي الأربعين فيما قصه العريان في فصليه الخامس والعشرين والسادس والعشرين فلا ترى أساساً لهذا الذي يدعيه قطب، بل ترى شيئاً ينقض في صميمه دعواه هذه وينقض غيرها مما ادعاه. يعرض الرافعي على العريان ومخلوف أن يختارا أجود ما في الديوان لينظر فيه ثلاثتهم فما اتفقوا عليه فيه جعلوه حكمهم على الديوان كله. وليس وراء هذا في إنصاف خصم لخصمه في الأدب مذهب. فلما استبطأهما فيما انتدبهما له قال (أحسبكما لم تجدا ما تطلبان ولن تجدا. . . إذن فلنقرأ الديوان معاً من فاتحته فما أحسب الشاعر يختار فاتحة الديوان إلا من أجود شعره. . .!) وآخر قوله هذا مظهر آخر لنفس الرغبة في إنصاف العقاد وإن كان أولهما يدل على عقيدته في أدبه ويستشهد لها ضمناً بإبطاء أديبين في اتفاقهما على جيد في الديوان ينتقيانه، كأن الجيد الذي يتفق على جودته قليل في ذلك الديوان. سيقال طبعاً إن هذا ليس بحكم يعتد به على الديوان، فلو كان الأديبان الناظران فيه من المدرسة الجديدة لأسرع إليهما الاتفاق على جيد كثير. حسن. ولسنا نريد بما قلنا حكماً على الديوان ولكن نريد حكما على الروح التي نظر بها الرافعي وأخواه فيه، وهي روح إنصاف ورغبة في إنصاف من غير شك على نقيض الروح الذي نظر وينظر به سيد قطب ممثل المدرسة الحديثة في أدب عميد المدرسة التي يلقبها بالقديمة ولا يعجبه من أدبها ولا من روحها شيء.