تفهم من القطعة مرادها في بساطة بدليل البيتين اللذين ذكرنا لك، أصبح للقطعة معنى مفهوم على غموض فيه وعيوب فيها. فما دام المطلوب هو قبلة من الحبيبة فيها سعادة المحب، والحبيبة هي التي تملك منحها من فمها الشبيه إلى حد ما بالقمقم، أمكن توجيه القطعة وتبرير الشاعر إلى حد كبير في تخيله أن سعادته المتمثلة في قبلة من حبيبته محبوسة في فم تلك الحبيبة حتى تطلقها هي. أما وصف القمقم بأنه سابح في الدم فيجب حمله على ضرورة الشعر والقافية، أو على أنه وصف معيب لشدة احمرار الشفتين، أو على أن الشاعر أراد أن يلغز في قبلة فجاء بهذا الوصف وبغيره ليعمي على القارئ بعض التعمية.
فأنت ترى أن القطعة لا تحتاج إلى علم فرويد أو علم سيد قطب لحلها، بل هي تزداد تعقيداً وبعداً عن المعقول إن أنت حاولت إدخال العلم فيها. لكن العقاد لا يكون هو ما هو عند سيد قطب إلا إذا حشر العلم في شعره، وإلا فبم يمتاز العقاد على الرافعي ويمتاز هو عن مثل شاكر والعريان؟
هذا عن المثال الأول. أما المثال الثاني فقطعة مأخوذة عن (عابر سبيل) تحت عنوان (ابنا النور - الزهر يخاطب الجوهر) وهي في رأينا قطعة حسنة أوضح كثيراً من القطعة الأولى، لكنها لا تحتاج من العلم لفهمها أكثر مما يعرف الطالب الثانوي عن انعكاس الضوء وانكساره وامتصاصه، وعن التمثيل الخضري في النبات. وليس هناك بعد ذلك إلا خيال الشاعر في التصوير يجاريه خيال القارئ في التصور. وقد أحسن كل الإحسان حين لخص الموقف في طول عمر الجوهر الجماد وقصر حياة الزهر بقوله على لسان الزهر يخاطب الجوهر:
ومعدن النور فيك حي ... وفيك معنى الحياة فان
فيا زماناً بلا حياة ... إني حياة بلا زمان
وإن كنت تلمح شيئاً من تقصير اللفظ عن المعنى في قوله:
(وفيك معنى الحياة فان) فان (فانٍ) في الغالب لا تستعمل إلا للدلالة على الموت الذي سيكون بدلاً من الموت الواقع، لكن الشاعر المقيد بالقافية قلما يجتمع له في الشعر كل ما يريد. على أن المهم فيما نحن بصدده هو ما في تقدير سيد قطب للثقافة اللازمة لفهم القطعة