للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>

من الإسراف والتهويل

أما المثال الثالث فهو قول العقاد:

بك خف الجناح يا أيها الط ... ير وما كنت بالجناح تخف

لطف روح أعار جنبيك ريشاً ... فمن الروح لا من الريش لطف

وهما بيتان ليس فيهما معنى كبير، وليس فيهما من الصنعة أكثر من عكس الترتيب الطبيعي وهو كثير في الأدب العربي؛ لكن سيد قطب الذي لا بد أن يجد لكل قول للعقاد معنى علمياً ما أمكن ذلك، يتمثل في هذين البيتين نظرية علمية يحكيها في قوله (فعلم وظائف الأعضاء يقول إن الوظيفة تخلق العضو) ويطيق النظرية بقوله: (فوظيفة الطيران هي التي خلقت الريش وقبله الجناح!)، فجاء قوله هذا دليلاً واضحاً على أن الأديب إذا لم يترب تربية علمية، وجمع آراءه وأفكاره العلمية من الكتب والمجلات، يكون أميل إلى تصديق كل ما يساق إليه باسم العلم وإن خالف في ظاهرة المعقول. وإلا فكيف يمكن أن تخلق وظيفة الطيران الريش والجناح قبل أن توجد الوظيفة نفسها؟ إذ من الواضح أن لا طيران ولا وظيفة طيران في طائر قبل أن يوجد الريش والجناح. فلو قال قائل مثل هذا الكلام من غير أن ينسبه للعلم لكان موضعاً لتهكم صاحبنا واستهزائه. أما وقد نسب هذا الكلام إلى العلم فيما قرأ فهو يقبله من غير نظر ولا تمحيص.

إن المعقول ليس هو خلق الوظيفة العضو، ولكن تنميتها إياه. فالعضو لا بد أن يوجد لأداء الوظيفة، واستعماله فيها بعد ذلك ينميه ويقويه ويرقيه. أما سبب إيجاد العضو فليس العلم يعرفه وإن حاول بعض العلماء أن يفسره بمثل هذا الغرض الذي لا يفسر شيئاً، والذي لا يعبأ العلم به في الواقع لأنه لا يمكن أن يختبر صحته لا بالتجربة ولا بالمشاهدة. والفروض العلمية لا حرج على العلماء في فرضها. فليفرض منهم منها ما شاء ما دام ذلك يساعده على التفكير. لكن العلماء يعرفون أن لا قيمة لهذه الفروض ما لم تساعد على إجراء تجارب ومشاهدات لاختبارها، وما لم تؤيدها هذه التجارب والمشاهدات بعد إجرائها؛ لكن غير العلماء يكبرون كل ما ينسب إلى العلم وينزلونه من عقولهم منزلة واحدة، فلا يفرقون بين حقائقه ونظرياته وفروضه. وعندنا أن مسارعة المشتغل بالأدب إلى قبول مثل هذا الفرض الذي يخالف المعقول تنازل من ذلك الأديب عن حرية التفكير التي يحرص عليها

<<  <  ج:
ص:  >  >>