مثلاً ويغالي فيها إذا كان الموضوع لا يتصل بالعلم ولكن يتصل بالدين.
والمثال الرابع الذي ضربه سيد قطب لاتساع ثقافة العقاد وتفوقه بها على الرافعي يتصل بنظرية دروين، وهو مقطوعة (الجيبون) أو (أمام قفص الجيبون) وأحسن ما في هذه المقطوعة خيالها؛ أما اتصالها بالواقع وبحقيقة نظرية دروين فليست منه في شيء كبير. إنها تذكر النظرية كما يفهمها غير العلماء، فتجعل (الجيبون) أبا العبقري أي الإنسان، وتجعل الناس أبناء (الجيبون). والناس في العادة ينسبون هذا الرأي لدروين ودروين منه بريء، فان دروين لم يقل إن الإنسان أصله قرد كما يقول العقاد، وإن صح أن يفهم من نظريته في أصل الأنواع بالانتخاب الطبيعي أن القرد والإنسان يرجعان في سلسلة النشوء إلى أصل واحد بعيد ليس بقرد ولا إنسان، فترقي فرع عن هذا الأصل فصار إنساناً، وسار فرع آخر سيرة أخرى فصار قرداً. فقول العقاد للجيبون:
كيف يرضى لك البنون مقاماً ... مزرياً في حديقة الحيوان
قول يدل على سوء فهم لنظرية دروين.
ثم إن النظرية لا تقول بأن الفرق بين الإنسان والقرد فرق زمني في صميمه، ولا أن الإنسان أقدم من القرد حتى يصح لأحد أن يظن أن القرد إذا استوفى زمنه ومرت عليه ملايين السنين صار إنساناً. إن القرد أقدم ظهوراً على الأرض من الإنسان في حكم العلم إلى الآن، فلو كان القرد يستطيع رقياً إلى الإنسانية لترقى. إن سنن الترقي قد حكمت حكمها بين الاثنين، فلن يصير القرد إنساناً مهما عاش، وإن جاز أن ينحط الإنسان فيصير قرداً أو شبه قرد إذا قصر في استعمال ما وهبه الله على الوجه الذي اختاره الله له حقبة كافية من الزمن؛ فان هناك سنة انحطاط بالترك والإهمال والمعصية، كما أن هناك سنة ارتقاء بالاستعمال والإحسان والطاعة.
والناس يعطون نظرية دروين فوق ما لها من قوة عند العلماء فيظنون أنها تفسر خلق الأنواع، ويضل منهم بهذا الظن من يضل إذ لم يبق عنده لوجود الإله من داع. لكن النظرية في حقيقتها لا تفسر إلا حفظ الأنواع، أما مجيء الأنواع وخلقها فان النظرية لا تفسره. هي - كما يقول دريتش في محاضرات جيفورد التذكارية - سلبية الأثر لا إيجابيته: تفسر كيف انعدم المنعدم من الأنواع، ولا تفسر كيف وجد الموجود.