على أن من المهم أن ننبه في هذا المقام أن سنة التطور لا يشك فيها الآن أحد من العلماء، لكن طريق التطور وعلمه وأسبابه هي موضع الأخذ والرد والبحث بينهم. فأخونا علي الطنطاوي كان على حق حين أنكر نظرية دروين كما يصورها العقاد في مقطوعته، والذي انتقده في الرسالة على حق في قوله: إن التطور يقول به كل العلماء المعتد برأيهم، وعلى باطل إذا كان قصده بهذا أن هؤلاء العلماء يفهمون من التطور ما فهمه ووصفه العقاد في مقطوعته.
فمقطوعة العقاد إذا أخذت بتفاصيلها العلمية مبنية على خطأ كبير، وهي من الناحية العلمية لا تساوي أكثر مما يعتقده الناس عادة في نظرية دروين؛ وإذا أخذت من الناحية الشعرية الخيالية وحمل خطؤها العلمي على أنه خيال شاعر كان لها شيء من القيمة، ولكن شتان بين قيمتها هذه وبين ما يدعيه لها سيد قطب بضعفه العلمي وافتتانه بالعقاد.
فالعلمية التي يقيس بها سيد قطب تفوق العقاد على الرافعي علمية ضعيفة ناقصة في بعض الأمثلة، ومهوَّلة هوّلها الوهم والافتتان في بعض الأمثلة الأخرى. وهي في الحالتين لا تزيد شيئاً عنها في الأمثلة التي جاء بها من كلام الرافعي واتخذ منها سبباً للزراية عليه، وإن سلمت أمثلة الرافعي من الخطأ الذي وقع في بعض أمثلة العقاد.
ومن أول ما تهكم به على الرافعي من هذا النوع قوله في حبيبته:
سيالة الأعطاف أين ترنحت ... تطلق لكهربة الهوى سيالها
وقوله فيها أيضاً:
يا نجمة أنا في أفلاكها قمر ... من جذبها لي قد أضللت أفلاكي
ولا يزيد قطب في نقد هذين البيتين على أن يقول مبالغة في الإيحاء بتهكمه إلى القارئ:(ولا شيء وراء هذا العبث الذي لا نريد له نقاشاً)!. ويظهر أن عيب هذين البيتين وأمثالهما عنده هو وضوح معناهما، فان الرافعي عنده (سهل جداً لا يكلف مجهوداً ولا عناء)، مع أننا لا نظنه يفهم كثيراً من (حديث القمر) لو أعاد قراءته الآن. فصعوبة الكلام على فهمه مزية يكبر بها الكلام عنده فيما يظهر، ويسميها في العقاد سموا وسموقا وإن كان يسميها في الرافعي مداحلة ومعاظلة! هذا هو القياس عنده في الواقع لا العلمية، وإلا فأي فرق في العلمية بين المعنى العلمي الواضح والمعنى العلمي الغامض لو كان يقيس قياساً