إن القاهرة تقوم في العصر الحديث بالواجب الذي كانت تقوم به بغداد في عصر بني العباس، فمن واجب القاهرة أن تحمل من التكاليف ما حملت بغداد، بل من واجب القاهرة أن ترحب بمطلع اليوم السعيد الذي يقضي بان يكون لها في الشرق منافس قوي هو بغداد، فتفرد القاهرة بالزعامة الأدبية قد يضر أكثر مما ينفع، لأن التفرد بالتفوق قد يخلق عيوباً أيسرها الزهو والخيلاء والاطمئنان إلى أن ليس في الإمكان أبدع مما كان.
وقد بدأت هذه العيوب تظهر مع الأسف، فأهل مصر شغلتهم ثقافتهم التي اتسعت وتشعبت عن التطلع إلى ما يبدع أهل العلم والأدب في العراق وسورية ولبنان وفلسطين والحجاز واليمن والجزائر وتونس ومراكش وما إلى هؤلاء من البلاد العربية؛ وانصراف أهل مصر عن الأدب في تلك البلاد يحجبهم عن تطور الحياة في أقطار حية سيكون لها بإذن الله مكان بين الأقطار التي تسود العالم في المستقبل القريب.
ومن الواجب في مقامي هذا أن أوجه أنظاركم إلى حقيقة لا يختلف في صحتها اثنان: تلك الحقيقة هي أن مصر تتفرد اليوم بالسيادة العقلية في البلاد العربية. فمؤلفات مصر ومجلات مصر ليس لها مزاحم يخشى خطره في تلك البلاد؛ وشعراؤنا وكتابنا هم الذين يقدمون الغذاء الأدبي لجمهور المتعلمين في الأقطار العربية، وبفضل إقبال أولئك الإخوان على مؤلفات مصر ومجلات مصر استطاعت اللغة العربية أن تقف على قدميها بجانب اللغة الفرنسية واللغة الإنجليزية. فاللغة العربية اليوم لغة حية حقا وصدقاً، وهي تكافح وتناضل لتسيطر وتسود. وما كان من الغريب أن تسيطر اللغة العربية في أقطار كتب الله أن تستعرب منذ أجيال طوال، ولكن فساد الزمن وتوالي الأحداث والخطوب جعل سيادة اللغة العربية في بلادها من الغرائب، فلنفهم ذلك ولنواصل الجهاد، ولنعرف أن من أعظم الشرف أن نكون في الحياة من المجاهدين، ولنتذكر دائماً أن انتصار اللغة العربية في أوطانها هو البشير بأن تلك الأوطان تستعد من حيث تشعر أو لا تشعر لحياة مجيدة سترون أعلامها بعد حين.
وإخواننا العرب يعجبون من تفرد مصر بالتفوق في اللغة العربية، فان أذنوا شرحت لهم بعض أسرار هذا التفوق. فمصر هي الأمة الوحيدة التي استعربت استعراباً تاماً، وصارت العربية لغتها الرسمية والقومية في مدة ترجع إلى ثلاثة عشر قرناً. وهذا حظ لم يظفر بمثله