وأذكر أن أحدهم كان يذكرني درسه بالكتاب الذي حفظت فيه القرآن الكريم، فقد كان يملي درس الجغرافية، فإذا كان الدرس التالي طالبنا به محفوظا ً عن ظهر قلب، وكان يقف أمامه التلميذان والثلاثة دفعة واحدة وعلى مكتبه الكراسة والتلاميذ يتلون وهو يسمع، ثم يضع في كل ركن واحداً من الحافظين ليمتحن زملاءه. وكنت لا أستطيع أن أحفظ شيئاً عن ظهر قلب فكنت أحبس بعد كل درس في الجغرافيا حتى كرهتها وكرهت حياتي كلها بسببها. وكان لنا مدرس آخر من أظرف خلق الله وأرقهم حاشية وأعفهم لفظاً، فكان إذا ساءه من أحدنا أمر وأراد أن يوبخه قال له: تهج كلمة بليد مثلاً أو مجنون أو غير ذلك كراهة منه لإسناد الوصف إلى التلميذ مباشرة. ولم يكن تدريس اللغة العربية خيراً من تدريسها في الوقت الحاضر ولكنا كنا أقوى فيها من تلاميذ هذا الزمان - لا أدري لماذا!. وكان المفتش الأول للغة العربية المرحوم الشيخ حمزة فتح الله، وكان من أعلم خلق الله بها وبالصرف على الخصوص، وكان رجلاً طيباً ووقوراً مهبباً، فكان إذا دخل علينا يسرع المدرس إليه فيقبل يده فيدعو له الشيخ، ولا نستغرب نحن شيئاً من ذلك بل نراه أمراً طبيعيَّاً جدَّاً. وأعتقد أن منظر أساتذتنا وهم يقبلون يد الشيخ حمزة كان من أهم ما غرس في نفوسنا حب معلمينا وتوقيرهم، فأني أراني إلى هذه الساعة أشعر بحنين إلى هؤلاء المعلمين ولا يسعني إلا إكبارهم حين ألتقي بواحد منهم وإن كنت لم أستفد منهم شيئاً يستحق الذكر. ومن لطائف الشيخ حمزة أنه كان يقول ملاحظاته على المعلم على مسمع منا، ولكنه كان لا يكتب في تقريره إلى الوزارة إلا خيراً. وقد اتفق لي بعد أن تخرجت في مدرسة المعلمين وعينت مدرساً في المدرسة السعيدية الثانوية أن جاء الشيخ حمزة للتفتيش فاغتنمت هذه الفرصة وقلت:(يا أستاذ، ما هو الاسم العربي الصحيح لهذا الدخان الذي نسميه الدخان تارة والتبغ تارة أخرى) فقال: (أنظرني يا سيدي حتى أنظر في الكناشة). وأخرج مما يلي صدره تحت القفطان كراسة ضخمة لا أدري كيف كانت مختبئة غير بادية وقلب فيها ثم أنشد هذا البيت:
كأنما حثحثوا حصا قوادمه ... أو أم خشف بذي شت وطباق
ومضى عني. وفكرت أنا في كلمة الطباق التي جاءني بها الشيخ. فاستحسنتها ورأيت أنها على العموم خير من كلمة التبغ التي نعرب بها اللفظ الإنجليزي أو الفرنسي (توباك أو