للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

في هذا نجاتي. وقد حفظت هذا الجميل للشيخ شاويش، وكانت هذه الحادثة بداية علاقتي به

ولم تكن المواد كثيرة أو طويلة في مدرسة المعلمين، ويكفي أن أقول إنه كانت لنا في الأسبوع ثماني ساعات لا نتلقى فيها أي درس، فترك هذا التخفيف وقتاً كافيا للمطالعة الخاصة؛ وكان أساتذتنا وناظرنا يشجعوننا عليها بكل وسيلة ولا يفوتهم مع التشجيع والحث أن يوجهونا وينظموا لنا الأمر، وأحسب أن هذا نفعنا جدا

وقد صرت معلما بعد ذلك وظللت أشتغل بالتعليم عشر سنين؛ خمس منها في الوزارة وخمس في المدارس الحرة، وفي هذه السنوات العشر لم أحتج أن أعاقب تلميذا أو أوبخه أو أقول له كلمة نابية. ولم يقصر التلاميذ في محاولة المعاكسة ولكني كنت حديث عهد بالتلمذة وبشقاوة التلاميذ، فكنت أعرف كيف أقمع هذه الرغبة الطبيعية في الشقاوة. وكانت طريقتي أن أتجاوز عن الذي لا ضير منه فلا أشغل به نفسي والتلاميذ، مثال ذلك أن يحتاج التلميذ إلى قلم أو نشافة فيطلبها من جاره ويكلمه في ذلك فلا أعد هذا من الكلام الذي لا يباح، ولا أقيم ضجة من أجله. وقد حدث يوما وأنا مدرس في الخديوية أن دخلت فرقة فألفيت على مكتبي كل أدوات الرياضة مرصوصة على نحو لا شك أنه معتمد، وكان تلاميذي لا يجهلون كرهي للرياضة، وكنت أنا لا أكتمهم أني أعد نفسي جاهلا بها حمارا في علومها؛ وكان غرضهم من رص هذه الأدوات أن يعابثوني عسى أن أثير الضجة التي يشتهونها ولا يفوزون مني بها. ولكني لم أفعل بل اكتفيت بأن دعوت الفراش فحمل هذه الأدوات ووضعها في مكانها ثم بدأ الدرس. وأتفق يوماً آخر أن دخلت الفصل فإذا رائحة كريهة لا تطاق، وكان الوقت صيفاً والجو حاراً جداً فضاعف الحر شعوري بالتنغيص من هذه الرائحة الثقيلة. وأدركت أنها هي المادة التي كنا ونحن تلاميذ نضعها في الدواة مع الحبر فتكون لها هذه الرائحة المزعجة. فقلت لنفسي إنهم ثلاثون أو أربعون وأنا واحد، وإذا كانت الرائحة القبيحة تغثي نفسي فإنها تغثي نفوسهم معي أيضاً. فحالهم ليس خيراً من حالي، والإحساس المتعب الذي أعانيه ليس قاصراً علي ولا أنا منفرد به؛ وإنهم لأغبياء لأنهم أشركوا أنفسهم معي وقد أرادوا أن يفردوني بهذه المحنة. والفوز في هذه الحالة خليق أن يكون لمن هو أقدر على الصبر والاحتمال، فتجاهلت الأمر وصرت أغلق النوافذ واحدة بعد أخرى لأزيد شعورهم بالضيق والكرب فلا يعودوا إلى مثلها بعد ذلك، وقد كان.

<<  <  ج:
ص:  >  >>