تصبرت وتشددت ودعوت الله في سري أن يقويني على الاحتمال، ومضيت في الدرس بنشاط وهمة لأشغل نفسي عما أعاني من كرب هذه الرائحة الملعونة. وكنت أرى في وجوههم إمارات الجهد الذي يكابدونه من التجلد مثلي فأسر وأغتبط وأزداد نشاطاً في الدرس وإغضاء عمن يرفعون أصابعهم ليستأذنوا في الكلام فقد كنت عارفاً أنهم إنما يريدون أن يستأذنوا في فتح النوافذ عسى أن تخف الرائحة ويلطف وقعها. وظللنا على هذا الحال نصف ساعة كادت أرواحنا فيها تزهق، ورأيت أن الطاقة الإنسانية لا يسعها أكثر من ذلك، وأن التلاميذ خليقون أن يتمردوا إذا أصررت على عنادي المكتوم، واغتنمت فرصة إصبع مرفوعة وسألت صاحبها عما يريد، فقال إنه يريد أن يفتح النافذة لأن الحر شديد. قلت افتحها، وفتحت النوافذ كلها. وتشهدنا جميعاً واستأنفنا الدرس ولكن بفتور لشدة ما قاسينا من رياضة النفس على احتمال مالا يطاق. وانتهى الدرس وخرجت فخرج ورائي ثلاثة أو أربعة من التلاميذ ولحقوا بي، وقال لي واحد منهم إنهم يأسفون لما حصل وإن الأمر كان مقصوداً به غيري، وإنهم يطلبون الصفح، فسررت ولكني تجاهلت وسألتهم عما يعنون. وقالوا: الرائحة الكريهة التي كانت في الفصل. وقلت: رائحة. . . أي رائحة؟ إنني مزكوم ولهذا لم أشم شيئاً فلا محل لاعتذاركم. ومضيت عنهم، وكان هذا درساً نافعاً لهم ولو أني عاقبت أحداً لما أثمر العقاب إلا رضاهم عن نفوسهم لأنهم استطاعوا أن ينغصوا علي، وأن ينجح معي عبثهم الطبيعي في مثل سنهم
وفي آخر سنة من اشتغالي بالتدريس توليت أمر مدرسة ثانوية فقلت للأساتذة: إني ألغيت العقوبات جميعاً فلا حبس ولا عيش حاف ولا شيء مما اعتاد المعلمون أن يعاقبوا به التلاميذ. ونظريتي هي أن المدرس الذي يحتاج إلى معاقبة تلميذه لا يصلح لهذه المهنة وخير له أن يشتغل بغيرها، وأن العلاقة بين المعلم وتلميذه ينبغي أن تقوم على المودة والاحترام، وأن يكون أكبر وأقوى عامل فيها هو شعور التلميذ بأن المدرس والد له يبغي له الخير ويخدمه ويفتح له نفسه ويقوي مداركه وينمي استعداده، وأنه لا يلزمه بدرس ولا يفرض عليه شيئاً بل يرغبه في الدرس ويحبب إليه التحصيل. وعلى هذا فليس لأحد من المعلمين أن ينتظر مني أي معونة على ضبط النظام، وقد كان. قضينا في هذه المدرسة سنة كاملة لم يشعر فيها التلاميذ بسلطان أو سطوة، وإنما شعروا أنهم أبناء لنا وأننا إخوان