وقلما تتفق الإجادة فيهما معاً إلا للأقلين كما قال الحكيم ابن خلدون. وبهذه المزايا كان أمة وحده في الكتاب والشعراء والمصنفين، وكان جمهور قراء العربية يشكون شيئاً من الغموض في كلامه، والحاجة إلى التأمل الكثير في بعضه لاستبانة مراده، ولكن لا ينكر أحد من أولي الفهم أن كل قارئ له يرى فيه من فرائد اللغة ودقائق التعبير البليغ عن المعاني ما لم يكن يعلمه، فهو كثير الابتكار والإبداع. ولو كان جمهور القراء يفهمون لغته حق الفهم لعم انتشارها
له عدة مصنفات أجلها موضوعاً وأوضحها بياناً (إعجاز القرآن) وقد أعطيناه حقه من التقريظ فنشر معه، وطبع ثلاث مرات، ويليه (تاريخ آداب العرب) و (تحت راية القرآن) ومنها (حديث القمر، ورسائل الأحزان، والسحاب الأحمر، وأوراق الورد) وهذه الأربعة كتب فلسفة وشعر
وأما كتاب المساكين الذي جعلناه ذريعة لتقريظها كلها فقد عرفه مصنفه بكلمة بيّن بها ما أراده منه وكتبها تحت اسمه وهي:(أردت به بيان شيء من حكمة الله في شيء من أغلاط الناس) ولقد صدق في قوله ووفى بمراده، ولقد كنت أعجز كما أخال أن كل أحد غيره يعجز عن تعريفه هذا. ثم وصفه بكلمة أخرى قال: إنها (من قلم الغيب) وذكر أنها أوحيت إليه في النوم وهي: (هذا كتاب المساكين، فمن لم يكن مسكيناً لا يقرؤه لأنه لا يفهمه، ومن كان مسكيناً فحسبي به قارئاً، والسلام) فإن صدق في أن هذه الكلمة من قلم الغيب كما صدق في أن من لم يكن مسكينا لا يفهمه، فأنا أظن أنه لا يوجد مسكين يفهمه، ذلك بأنني أظن أنني مسكين ولم أفهمه، إلا أن مسكنتي مسكنة أخلاق لا مسكنة إملاق، ولا أدري أية مسكنة ينتحل منشئ كتاب المساكين الذي لا يفهمه من ليس بمسكين. قرأت صفحات منه ففهمت بعض جمله، وأعجبت ببعض حكمه، واستعذبت بعض استعاراته التمثيلية والتخييلية. ولكني اقر بأنني لا أفهمه كله فهما إجماليا يمكنني تلخيصه به، ولا أفهم فصلا منه فهما تفصيليا يمكنني من تفسيره لمن لم يفهمه ولا تفسير كل جملة من جمله، فالكتاب في جملته من قلم الغيب، هبط على عالم الشهادة، وفي الاطلاع على عالم الغيب من اللذة الروحية والأنس ما ليس في الاطلاع على عالم الشهادة، وإن حارت فيه الإفهام، وكان حلما من الأحلام)