في بيت له ماض في الدعوة إلى الإسلام والدفاع عنه والذَّود عن حرماته؛ وهو شاب عزب، بعيد الخيال، دقيق الحس، مرهف الأعصاب؛ وعلى أنه يعيش في ظل وارف ونعمة سابغة، فأنه من سعة خياله ودقة حسه وحدة أعصابه متشائم النظرة، لا تراه إلا رأيت في وجهه وعلى طرف لسانه معنى دفينا من معاني الألم؛ وما يرى نفسه في أكثر أحواله إلا غريبا في هذا العالم وبين هذا الناس؛ فان له من خياله دنيا غَير دنيا الناس، وعالماً غير هذا العالم، يتمثل فيه المثل الأعلى الذي أعياه أن يبلغه على هذه الأرض. وكان بينه وبين الرافعي ودٌ وله في نفسه مكان؛ فكان له سره ونجواه منذ كان فتى يافعاً لم يبلغ العشرين. وكان الرافعي يعتد بصداقته ويقرّ إليه ويعجب بدينه وتقواه ويتوقع له مستقبلا مجيدا بين المجاهدين من أهل الأدب ودعاة الإسلام.
فلما بلغ الرافعي نبأ شروعه في الانتحار جزع وتطير وضاقت نفسه، وناله من الهم ما لم ينله لحادثة مما لقي من دنياه. فمن أجل هذه الحادثة أنشأ الرافعي مقالات (الانتحار)
ولم يكن الرافعي يعلم من أحوال صاحبنا ما دفعه إلى هذه المحاولة الطائشة؛ فأخذ يتكهن وينتحل الأسباب ليبني عليها الحديث والقصة؛ فما جاء جواب الأستاذ (م) إلا بعد المقالة الثالثة، فأخذ من هذا الجواب مادة الجزء الرابع من هذه المقالات، وجعل الحديث في هذا الجزء على لسان (أبي محمد البصري) وهو يعني الأستاذ (م)، فهو هو وكلامه كلامه في جملته ومعناه، لم يغير منه الرافعي إلا قليلاً من قليل. فما يدل على حالة صاحبنا إلا المقالة الرابعة من هذه المقالات الست. أما ما عداها مما سبق أو لحق، فهي قصص مفتعلة من وحي هذه الحادثة في نفس الرافعي
ومقالات الرافعي في (الانتحار) هي باب من الأدب لم ينسج على منواله في العربية من قبل، فيها فنه القصصي، وفيها روح المؤمن الذي لم تفتنه دنياه عن ربه، وفيها إلى ذلك شعر وفلسفة وحكمة، وقلب رجل يعيش في حقيقة الحياة
وكان بين الرافعي والأستاذ حسن مظهر محرر اللطائف المصورة مودة. فلما تولى تحرير اللطائف كتب إلى الرافعي يرجوه أن يكتب فصلاً لقراء اللطائف عن (سحر المرأة)؛ فكتب فصلاً بديعاً يصف فيه نفسه وصاحبته (فلانة) في أول لقاء بينهما
فلما فرغ من مقالات (الانتحار) تناول هذا الفصل فزاد فيه ما زاد وبعث به إلى رسالة