وقد قرأت القصة مع الرافعي كما أنشأها كاتبها؛ فكان الرافعي يقف عند كثير من عباراتها موقفاً بين الإعجاب والدهشة؛ إذ كان مؤلفها يكتب ما في نفسه كما هو في نفسه، فكان فيها وحي عاطفته ونبض قلبه ويقظة روحه، فجاء بأدق ما في الفن وأبلغ ما في التعبير غير قاصد إلى شيء من ذلك، وما كان يبلغ شيئاً من ذلك لو أنه قصد إليه؛ إذ لم يكن هو بين أهل البيان في هذه المنزلة، ولكنه كان من أهل الحب؛ وكان هذا هو دليل (الصدق) عند الرافعي فيما كتب صاحبه وما نقل إليه من قصة صاحبته. . .
ولما كتب المقالة الثالثة (دموع من رسائل الطائشة) خلا إلى نفسه أسبوعاً ليستجم، وبعث إلى الرسالة بالجزء الرابع من:(كلمة وكليمة) وفيها حديث عن العقاد
وفي هذا الأسبوع كان الرافعي يجمع خواطره حول ما سمع من قصة الطائشة، فأنشأ مقاله الرابع بعنوان (فلسفة الطائشة)
ثم أملي علىَّ مقالة (كفر الذبابة) يعني بها الحكومة التركية لبعض ما ذهبت إليه في شئون الإسلام والعربية. وهي آخر ما أنشأ من الفصول على أسلوب كليلة ودمنة
وكانت مقالة (كفر الذبابة) هي آخر ما أُملي على من المقالات؛ وذلك في صيف سنة ١٩٣٥. ثم تهيأ للسفر إلى مصيفه في (سيدي بشر)، وتهيأت للسفر إلى القاهرة فكانت فيها إقامتي، فلم أكن ألقاه أو يلقاني إلا ساعات كل أسبوع: فأسبوعاً أزوره في طنطا، وأسبوعاً يزورني في القاهرة. على أن الرسائل فيما بين ذلك لم تنقطع بيننا حتى يناير سنة ١٩٣٧، قبل موته ببضعة أشهر. ثم تجافينا لشأن ما، فما التقينا إلا مرة واحدة قبل موته بشهرين، فكان لنا مجلس في قهوة (بول نور) بالقاهرة مع الأصدقاء: شاكر، وزكي مبارك، وكامل حبيب، وزيادة؛ ثم افترقنا بعد منتصف الليل وفي نفسي منه شيء وفي نفسه مني. . .
وفي صبيحة الغد بدأت المعركة الأخيرة بينه وبين الدكتور زكي مبارك حول (وحي القلم)
. . . ومضى شهران بعد تلك الليلة لا ألقاه ولا يلقاني؛ وهو يشكوني إلى صحابتي وأشكوه؛ حتى جاءني نعيه. . . غفر الله لي!
لكأنما كانت هذه القطيعة بيننا وقد دنا أجله، لتخفف عني وقع المصاب من بعد؛ أو لتحملني - غير محمول من أحد غير واجبي - على كفارة الذنب الذي أذنبت بهذه القطيعة؛ فأبذل ما في الطاقة من الجهد الجاهد لكتابة هذا التاريخ فأقوم له بعد موته بالحق الذي عجزت