يأخذون بآرائهم ولا يلقنونه لطلبتهم بل كانوا على النقيض من ذلك من المتبرمين بهم والزارين عليهم، وكان محذوراً على القضاة الشرعيين أن يتخذوه مدداً لآرائهم القضائية أو مصدراً لثروتهم العلمية لأنهم كانوا مأخوذين بالقضاء على أرجح الأقوال من مذهب أبي حنيفة، لكن لما تشعبت الحياة في مناحيها، واتضح بجلاء أن مذهب أولئك الأحرار المشترعين خليق بتقديره وبعثه من مرقده واتخاذه قبلة للناس في بعض أحوالهم الشخصية (والحاجة كما يقولون تفتق وجه الحيلة) لجأ طلاب الإصلاح إلى سن قانون موضوعي يحيط قدر المستطاع بمرافق الناس ويسد كفايتهم القضائية ويحرر العقول من كل تقليد لا يتفق ومصالح الجمهور. فأين نحن الآن من فكرة تجميع الفقه الإسلامي في موسوعة واحدة والأحداث كل يوم تحفزنا إلى جديد من الفن في كل شيء لنلقي بين أيدينا دروساً من العظة بالماضي، وإن ما صلح اليوم للعمل به قد لا يصلح غداً؛ وإن سلسلة التجارب لما يقع تحت المشاهدات ستظل متصلة الحلقات بالوجود اتصالاً وثيقاً؛ ثم ما لنا ولتجميع الفقه الروماني وقد كان الفقه الروماني - كما يقول بحق الباحث العلامة الدكتور عبد الحميد أبو هيف - قائماً بأسسه وقواعده على التفرقة بين الطبقات؛ أما الإسلام بقواعده وأسسه فهو قائم على الديمقراطية العادلة والمساواة الواضحة؛ وأية ديمقراطية ومساواة أعمق في الوجود أثراً وأخلد في المجتمع ذكراً من تلك التي أسس قواعدها وشيد بنايتها فاطر السموات ومدبر الكائنات وبعثها على لسان الرسول الأعظم قام من بعده خلفاء راشدون، وحسبك من بينهم عمر الفاروق هذا الذي يضرب أعلى المثل وأنبلها في المساواة وخفض الجانب واحتقار الأثرة في الواقعتين التاليتين:
مرَّ الفاروق كعادته في جوف ليلة وقد اتكأ على جانب جدار أحد المنازل فسمع امرأة تقول لابنتها: يا بنتاه، قومي إلى ذلك اللبن فامزجيه بالماء. فأجابت الفتاة: أما علمت يا أماه بما كان من عزم أمير المؤمنين؟ قالت الأم: وما كان من عزمه؟ قالت الفتاة إنه أمر مناديه فنادى في الناس ألا يشاب اللبن بالماء. قالت: يا ابنتي قومي إلى اللبن فامزجيه بالماء، فنحن في موضع لا يرانا فيه عمر ولا مناديه. قالت الفتاة: يا أماه، والله ما كنت لأطيعه في الملأ وأعصيه في الخلاء. كان هذا الحوار الطريف يجري بين الأم وابنتها على مسمع من عمر وهو أشد ما يكون البنت إعجاباً وبالأم تبرماً. فلما تحقق من ظفر الفتاة برأيها