وخيراتها العميمة؟ حقا لقد كنا فيها معذبين، وكنا عبيداً نسام الخسف والذلة، ولكن الجوع والموت كانا أفظع في نظرنا من الذل. أقمنا أكثر من سنة في البرية ننتقل من مكان إلى مكان ومن واد إلى واد حتى ذهبنا إلى (رفيديم) في جوار الجبال العإليه التي تغطيها ثلوج الشتاء وقد بلغ بنا الحنين عند ذلك إلى مصر مبلغا عظيما وأشتد غضبنا على ذلك الزعيم الذي أخرجنا منها.
فهل الحرية تستحق أن نسعى إلى الفقر من أجلها؟ وهل الذل والعبودية يستحقان أن يهرب منهما إلى الموت؟ لقد كرهنا كل شيء في تلك البرية حتى اسم الحرية، وذكرنا مصر بالحنين بما كان فيها من طعام وشراب، حتى لقد بلغ بنا الحنين إليها ان نحن إلى ما كان فيها من ذل وخسف، ثم حننا إلى النيران التي كنا نوقدها ليلا ونرقص حولها فرحا في أعياد (رع) و (هاتور) لا بل لقد مالت قلوبنا إلى تلك الآلهة المرحة، ووددنا لو أقيمت لنا تماثيلها الذهبية لنعبدها بدل الآله الذي لا نراه ولا تقام له الأعياد المرحة على شراب البلح والحنطة.
فما كاد (موسى) يصعد على عادته إلى الجبل العالي الذي تغطي قمته الثلوج حتى اجتمعنا وصرخنا إلى (هرون) وتجمهرنا واجتمعنا حوله، فلم يستطيع أن يمنعنا من أن نصور تمثالا (لأبيس) من الذهب الخالص، وأقمنا حوله الأعياد والأفراح ونادينا بالعودة إلى مصر. غير أن (موسى) عاد بعد قليل فرآنا على تلك الحال فغضب وحطم التمثال، وأوقع بالرؤساء، ولم يقدر أحد منا أن يقاوم أو يراجع.
وجعل يعنفنا على ما ارتكبناه من الذنب العظيم، وكنا لا نستطيع أن نرفع أعيننا نحوه. وكأنه أراد أن يعاقبنا على ذلك عقاباً شديداً فما مضت أيام حتى أمرنا بالتأهب لغزو بلاد (مواب). بلاد مواب؟ أنستطيع أن نحارب جنود (مواب)؟ وهل خرجنا من مصر لكي نحارب؟ أي معنى لهذه الحرية وأي معنى لهذا الخلاص؟ إننا لم نفهمه ولم نفكر في شيء سوى ما كنا فيه من الحرمان. أنحارب، لا، لا إننا لن نستطيع الحرب مع أحد فلنعد إلى مصر
غضب (موسى) غضباً شديداً وصاح بنا (أيها العبيد، انكم قد نشأتم في الذل وعشتم في الخسف، ان دمكم قد تلوث بالعبودية فليس يحمى وليس يغضب. إنكم لا تعنون إلا بالطعام،