للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

كلوا واشربوا وعيشوا في الذل والخسف؛ فما أنتم إلا مثل الأنعام لا تعبئون إلا بما يملأ بطونكم. لقد حكم على جيلكم أن تظلوا عبيدا لا تهتمون إلا ببطونكم حتى تنقرضوا ويفنى كل جيلكم، فإذا نشأ جيل آخر لم تسممه العبودية استطاع أن يفهم الحرية والكرامة ستبقون في البرية أربعين عاما حتى يموت آخركم فيها، ثم ينهض الجيل الجديد الذي يقدر له أن يفهم حياة الأحرار ويغزو معي بلاد مواب) سمعنا ذلك القول ولم نستطع جوابا، ولكن قلوبنا كانت تغلي من الغيظ، ولم يكن موسى سوى أبن عم لي أنا شأول بن شمويل اللاوي. فذهبتّ تلك الليلة إلى مضجعي ولم أستطيع أن أجد النوم، وسألتني امرأتي أن أخبرها بما يقض مضجعي فأخبرتها. فقالت لي لماذا لا نعود إلى مصر؟) ولم أكن أنتظر أكثر من ذلك، فعولت على الخروج ليلا والعودة إلى مصر في الطريق الذي أتينا منه. وفي الليلة التإليه كنت في طريقي إلى بلاد فرعون. قضيت في سيري هذا ثلاثة شهور من هلال أول السنة إلى هلال الشهر الثالث، وكانت هذه الشهور الثلاثة عقابا عادلا على كل ما وقعت فيه من البطر والاعتداء لقد هربت خوفا من الجوع وعدت بنفسي لكي أعرض ظهري إلى سياط عبيد فرعون وأضع يدي في قيود الذل والظلم لكي أشبع جوعي، وأطعم امرأتي وأبنائي، ولكني لم أجد ما ابتغيت. فقد قبض علي (منحوتب) قائد رميد وأرسل أبنائي وامرأتي ليكونوا عبيدا لفرعون، ووضعوني في السجن لانتظر الموت، وهنا في هذه الحجرة أبقاني في انتظار حكم فرعون.

وإني في هذه الحجرة المظلمة أجلس الآن في انتظار الهلاك، ويمر بخاطري كل ما حدث في حياتي من الحوادث، يمر كل ما كان في أيامي الماضية كما تمر حوادث الماضي أمام عين الغريق إذا اشرف على الموت وقد رأيت أن أكتب قصة تلك الحياة لكي أخلف صرخة لمن يجئ بعدي. لقد كنا نهرب في كل أيامنا من الموت، وهاهو يجئ أخيراً ويلحق بنا مع طول هربنا منه. ونرضى بالذل في سبيل الحياة، ونرضى بالعبودية والخسف في سبيل الحصول على القوت، مع أن الحياة لا تستحق أن يحياها الإنسان إذا كانت حياة ذل وعبودية. ها قد تنبهت أخيرا إلى أن (موسى) كان عظيما حين دعانا إلى البرية وفضل الجوع والموت على حياة الشبع والذل. ولكن كنا قد مشى دم العبيد أجيالا في دمائنا، فلم يحم ذلك الدم في عروقنا غضبا للكرامة والحرية، ولم نفهم صرخة زعيمنا على وجهها، بل

<<  <  ج:
ص:  >  >>