ولو أنا رجعنا إلى ما أُلف من المقالات والكتب منذ ثلاثين سنة ما وجدنا أثراً لهذا الاصطلاح: أعني اصطلاح تقسيم الأدب إلى جديد وقديم، وإنما كان الشعراء الذين يسمون الآن أدباء المذهب الجديد يدعون إلى نبذ شعر الغزل المتكلف الذي كان مقدمة لقصائد المدح والهجاء والسياسة، ونظم الشعر فيما تحسه النفس من حب أو غير حب على طريقة شعراء الجاهلية وصدر الإسلام. وكانوا أيضاً يدعون إلى نبذ المغالاة في المحسنات اللفظية التي أولع بها شعراء الدولة العباسية والرجوع إلى طريقة شعراء الجاهلية وصدر الإسلام في تفضيل صنعة العاطفة أو ذكرى العاطفة (وذكرى العاطفة عاطفة). وكانوا أيضاً يدعون إلى نبذ التضييق في أبواب الشعر ونبذ المغالاة في تقييد حرية القول والرجوع إلى شيء من حرية القول التي كانت في كثير من عصور الشعر العربي القديم من غير دعوة خاصة إلى إباحة حرية القول من أجل الإباحية في الخلق
هذه كانت مبادئهم؛ فهم إذاً كانوا أخلق بأن يدعوا رجعيين، فهم كانوا رجعيين في طلب احتذاء شعراء الجاهلية وصدر الإسلام في وصف أحاسيس النفس وخواطرها رجوعاً عن الغزل الصناعي وأبواب القول الصناعي التي أولع بها المتأخرون. وكانوا رجعيين في طلب احتذاء سهولة العبارة وأقربها دلالة على الإحساس والمعنى كما كان يفعل شعراء الجاهلية وصدر الإسلام رجوعاً عن المبالغة في الصناعة التي أولع بها العباسيون. وكانوا رجعيين في طلبهم ألا يقصر الشعر على معان متفق عليها كما كان المتأخرون يفعلون والرجوع إلى طريقة المتقدمين في إظهار كل شاعر خصائص نفسه وفكره وأن يباح له القول إذاً أكثر مما كان يباح للمتأخرين
فالنزعة إلى التجديد كانت في أول الأمر نزعة رجعية كما ترى؛ واتفق أن أنصارها قرءوا الشعر الأوربي فرأوا أن مبادئ رجعيتهم هي مبادئ الأدب الأوربي الصحيح السليم، وأن الأدب الأوربي يعينهم على تحقيق تلك الرجعية، وأنه إذا تقدم بهم الأدب الأوربي فيكون تقدماً كما كان يتقدم أدب الجاهلية وصدر الإسلام لو أنه لم تعترضه عوارض الجمود والقيود المصطنعة التي تغلبت على الأدب العربي بعد ذلك
فإذا كانت هذه النزعة قد دخلتها المغالاة فهي أمر طبيعي يعترض الأمور في أول الأمر حتى تستقر؛ وإذا كانت قد تفرعت منها فروع بعيدة فهذه سنة طبيعية، فالقرامطة