ذلك الرأي عندهم أن النفس الناطقة لا تستوحي الكمال الذاتي والعقل النوراني ما دامت متصلة بتلك الهيولي التي تحجب عنها العلوم والمعارف الكلية، إلا إذا فارقت ظلمة الهيولي ولوثة تلك الكدورة، وحينئذ تفارق الجهالات المتنوعة فتصفو وتخلص من ربقة البدن فتكتب لها الإضاءة ويواجهها النور الإلهي. ويترتب على رأي هؤلاء بادئ ذي بدء أن الإنسان لا يظفر بالفوز الأكبر والسعادة العليا إلا في حياة الجزاء بعد موته.
لكن تأتي بعد ذلك جماعة أخرى من الفلاسفة المتأخرين وأرستطاليس منهم في الطليعة، فتذهب إلى أن من الشناعة والعبث وتجاهل الواقع أن ينعت الإنسان الذي يعمل الأعمال الصالحة ويعتنق الآراء الصحيحة، ويجد في تحصيل الفضائل لنفسه أولاً ثم لأبناء جنسه ثانياً، فينشئ صروحاً من الخير متنوعة، ويقيم أعماله وما يصدر عنه من الآثار على محبة القلوب وكسب ألسنة الناس في سبيل إعلاء معالم الفضيلة والحق والنصفة وتحقيق معنى العدالة في أنبل مثلها - بأنه شقي في حياته الأولى وأنه لا يعتبر سعيداً إلا إذا فارقها وخرج من طبيعتها وملابساتها.
فالسعادة في رأي أرستطاليس ومتابعيه تتحقق في الحياة الأولى تطبيقاً لنظرية اشتهرت بينهم، وهي: أن الإنسان عندهم مركب من بدن ونفس، ولذلك يحدون الإنسان بالناطق المائت أو بالناطق الضاحك أو ما إلى ذلك، وفرعوا على هذه النظرية أن السعادة تحدث للإنسان إذا جد في طلبها وسلك إليها الوسائل المؤدية إليها. غير أن أرستطاليس حين رأى أن السعادة قد أشكل فهمها على الناس واضطربت فيها آراء العلماء والفلاسفة، عقد لها في كتابه المسمى (بفضائل النفس) فصلا طويل الذيل ضافي التفاريع حافلا بالحجج والآراء، فقال في فاتحة هذا الفصل مع تصرف في المبنى واحتفاظ في المعنى:(من البين أن الفقير في هذه الحياة يرى سعادته في الغنى واليسار، وأن المريض يراها في الصحة والسلامة، وأن الذليل يتمثلها في الجاه والعزة والسلطان، وأن الخليع يلمسها في التمكن من الشهوات المختلفة، وأن النبيل الفاضل الكريم ينشدها في تعميم مناحي الخير وإفاضتها على مستحقيها، والحد من طغيان ذلك الخير حتى لا يشمل غير مستحقيه) ويتحققها الفيلسوف المستقصي لحقائق الأشياء والمستتبع لملابسات القواميس الكونية في أنها إذ تكون مرتبة بحسب تقسيط العقل لها على معنى أن يلحظ فيها وقتها الذي يجب أن تقع فيه وكما يجب