للمساهمة في دعم المكتبة الشاملة

فصول الكتاب

<<  <  ج:
ص:  >  >>
مسار الصفحة الحالية:

الذين قست قلوبهم، ورثاء الذين رقت نفوسهم كما أثار معاني أخرى أقوم وأخصب وأبقى من الضحك والرثاء. قال التلميذ: لم أقصد إلى برومثيوس ولم أفكر فيه، وهل تضن أني رأيته أمس ولم أذهب إلى القوقاز وإنما أنا معك في القاهرة، ولعلي أن ذهبتإلى القوقاز فلا أرى الصخرة ولا قرينها فلم يحدثنا عنهما أحد من الذين زاروا تلك البلاد بعد ايسكولوس. قال الأستاذ فهي صورة من صور برومثيوس قصدت إليها واتخذتها نموذجا لهذا النحو من البيان كما كان يفعل القدماء. قال التلميذ لم أفكر في برومثيوس ولم اقصد إلى تقليد ايسكولوس، وإنما هو شيء شهدته أمس. قال الأستاذ وماذا شهدت؟ قال التلميذ شهدت صديقنا فلانا وقد أرادت له ظروف الحياة أن ينتقل من دار إلى دار. قال الأستاذ وقد اغرق في الضحك ما ابعد هذه الصورة التي تحدثني عنها من تلك الصورة التي كنت أذكرك بها! وأين يكون صديقنا فلان حين تنقله الظروف من دار إلى دار، من برومثيوس حين يشده كبير الآلهة إلى صخرة القوقاز، قال التلميذ فقد أثار صديقنا فلان في نفسك الضحك لأن صورته ذكرتك بتلك الصورة الضخمة العظيمة التي نصبها أبو التراجيديا للناس فلما انحدرت منها إلى هذا الشخص الضئيل النحيل الذي كان يقيم في طرف من أطراف القاهرة فأنتقل إلى طرف آخر لم تملك نفسك أن أغرقت في الضحك إغراقا. ومع ذلك فلو قد رأيته أمس كاسف البال كئيب الوجه محزون القلب معقود اللسان مقيد الرجل مغلول اليد، محصورا بين طائفة من الأثاث وأدوات البيت، مختلفة اشد الاختلاف، متباينة اشد التباين، فيها الكبير والصغير، فيهاالأنيق والدميم، قد جمعت حوله تجميعا، وكدست حوله تكديسا، وقد وضع هو بينها وضعا على كرسي أو شيء يشبه الكرسي، وقيل له أقم لا ترم حتى يأذن الله أو يأذن العمال لك بالانتقال، وهو مقيم لا يريم، لا يستطيع أن يقول شيئا، ولا ينبغي أن يقول شيئا، لأنه لا يفهم مما حوله شيئا، يريد أن يخلو إلى نفسه ويعيش مع خواطره، وإذا هو مصروف عن ضميره صرفا بهذه الأصوات العنيفة المختلفة التي تأخذ من كل مكان، والتي تؤلف من حوله نوعا فجا فظا غليظا من الموسيقى، فيه أصوات العمال على اختلافها، واصطدام الاثاث، ووقعه على الأرض، وهذا الصوت الذي يغيظ ويهيج الأعصاب ويأتي من جر الأشياء على الخشب حينا وعلى الحجر حينا آخر، وخفق الأقدام وتداعي الخدم، وتناهي الحمالين وما شئت مما يحصر وما لا يحصر، من هذه

<<  <  ج:
ص:  >  >>