ولقد كنت أفردت مقالا للحديث عن هذا العنوان، وضربت من الأمثلة ما فيه الكفاية. ولكنني هنا ماض على نهجي للغرض الذي صدرت به هذه المقالة من استعراض (الخصوصية) المعبرة عن شخص العقاد، لا عن مناحي تفكيره واتجاهاته
فمن اليقضة التي هي جزء من شخصه قوله تحت عنوان (الهزيمة المرغوبة)
أريد التي ألقي سلاحي وجنتي ... إليها وألقاها من البأس أعزلا
وأطرح أعباء الجهاد وهمه ... لدى قدميها مغمض العين مرسلا
وأنت إذا أقبلت جحفلا ... وجردت أسيافا وشيدت معقلا
فإن تهزميني فاهزمي عن بصيرة ... مريداً لأسباب الهزيمة مقبلا
فها هنا رجل يعرف إحساسه، ويدرك قواه وقوى حبيبته، ولكنه يجنح إلى الفطرة، ويريد المرأة ليلقي إليها سلاحه وجنته ويلقاها أعزل من كل قوة، لتحضنه كالأم الرءوم، بعد ما ضاق ذرعاً بالجلاد والكفاح، فآوى إلى الهزيمة المرغوبة وهو قوي عالم بقواه!
ومن التأمل الفلسفي أن ينظر إلى حبيبه الغرير، الذي لا يدرك فتنة سحره فكأنما هو منها محروم، بينما العقاد قد فطن إلى هذه الفتنة وقطف من ثمارها وعرف الدنيا على ضوئها، وتملى الحياة على نورها، فعاد مالكا لها، وصاحبها محروم منها!
يا ساحراً فاتته فتنة سحره ... وتنقبت عن لحظه العسّاف
نجني الثمار من القفار بفنه ... ونَصيبُه منها التراب السافي
نرثي لسحرك أم نجل فعاله؟ ... ما أجدر المحروم بالتعاطف!
سحر خصصت به وأنت حُرمته ... حرمان لا حرج ولا متلاف
لا يقول هذا إلا العقاد، المتأمل في كل لفته ولمحه، الواعي للظواهر والبواطن، المعنيّ بالموافقات والمفارقات في عالم المعاني والإحساس
صوت الفطرة
وصوت الفطرة السليمة مسموع في كل ما يكتب العقاد، ولكنه في الأبيات التي نعنيها هنا مكشوف ناصع، لا يحتاج إلى الكشف والبيان، ولا ينسرب في الرموز والألوان، وهو - مع هذا - صوت فطرة العقاد الخاصة به، وإن كانت قبساً من الفطرة الخالدة