يخلق حقيقة ما يرسم، وإما الشاعر فمناط خلوده أن يخلق ما يصوره من الحقائق، لما مر بك من أن الفن إنما هو إبداع، على أن كليهما مبدع كما سيجيء
فليس للفنان في الرسم مهما أبدع في خلق الصور الخيالية (كاريكاتور) ما للفنان في الشعر وهو يتخيل فينتزع لك من الصور الحقيقة صورا خيالية يوهمك إنها حقيقة جديدة
وإذا قصرنا إبداع الفنان في الرسم على تصوير الحقيقة الخارجية تصويرا بالغاً فليس معنى ذلك أن الفنان لم يأت بجديد فيكون هذا القول معارضاً لما سبق من أن الفنان يخلق الحقيقة خلقا، لانا نعتبر تصويره البالغ للحقائق هو خلقا جديدا لها، إذ يوهمك انه عين ما يصور من حقيقة، فيكون هذا الإيهام إبداعا يشير إلى حقيقة ثانية خلقها فكر الفنان.
فالحقيقة التي يخلقها الفنان إما أن تكون متحققة في الخارج مادة وشكلا ثم يصورها لك بشكلها ومادتها حتى كأنك تحس بها حقيقة فيثير فيك الإعجاب لما يوهمك من إنها هي فكأنما قد خلقها خلقا، أو أن الحقيقة التي يخلقها هي نفس الإيهام مشفوعا بما يبعثه فيك من الروعة ولإعجاب
وأما أن تكون تلك الحقيقة المخلوقة متحققة في الخارج مادة لا شكلا كالخيال الذي يبدع الشاعر فانه ينتزع من صور الحقائق الخارجية حقيقة جديدة يوهمك إنها موجودة في الخارج كما في قول ابن خفاجة في نارنجة
وحاملة من بنات القنا ... أما ليد تحمل خضر العذب
وتندى بها في مهب الصبا ... زبرجدة أثمرت بالذهب
فالزبرجد والأثمار والذهب كل منها موجود في الخارج، ولكن الشكل الذي أبدعه الخيال منها وهو أثمار الزبرجد بالذهب هو غير موجود في الخارج ولكنه من خلق الخيال.
فالإيهام أذن لا يفارق الفن في الشعر والرسم، فمناط الإعجاز في فن الرسم هي الحقيقة الأولى، ومناط الإعجاز في فن الشعر هي الحقيقة الثانية، وقد يعجز الشاعر في تصويره ما في الخارج من حقيقة كما قد يعجز الرسام في إبداع ما يخلق من حقيقة ليس لها وجود في الخارج
والروح في فني الشعر والموسيقى مصدرها واحد وهو العاطفة، على أن الروح في فن الرسم مصدرها الفكر والخيال، والفرق بين الروح الشعرية وروح الفن الموسيقى هو أن