أن اللغة - كل لغة - ليست أكثر من أداة للإفهام أي لنقل المعنى أو الصورة أو الإحساس أو الخالجة على العموم من ذهن إلى ذهن ونفس إلى نفس. واللغة - كل لغة - بطبيعتها أداة ناقصة ووسيلة غير وافية، وهي في الحقيقة أشبه بإشارات الخرس التي تشير إلى المراد ولا تبين عنه. وكل من عانى الكتابة بأية لغة يعرف ذلك ويحسه ويستطيع أن يشهد به. وما أكثر ما نعجز عن التعبير عنه فنتركه إلى سواه مما يؤاتينا عليه البيان، ومتى كان هذا كذلك فإن من الشطط أن نزيد الأمر صعوبة بالأغراب والحذلقة بترك السهل إلى المهجور، والمأنوس إلى الحوشى، أي بجعل مهمة الإفهام أشق على الكاتب والقارئ معا، وما دامت اللغة العامية مشتقة من العربية وفرعا من أصلها فإن من الحمق أن نترك ما فيها من الصحيح وأن نروح نبحث عن غيره لنعبر به.
وفي العامية فضلا عن ذلك تعابير لا سبيل إليها في اللغة العربية على ما نعلم، مثال ذلك هذا البيت العامي:
(يا بت أنا بدي أبوسك ... بس أبوسك
واطرب وأحظى بكؤوسك ... رقي شوية)
هذان البيتان العاميان كل ألفاظهما عربية صحيحة - البت هي البنت ولو نطقناها بنت لما تغير الوزن. وبدي من قولك لا بد لي أو من قولهم بودي، وأبوسك كلمة عربية صحيحة لا تحريف فيها ولا تصحيف ولا شيء غير ذلك والفعل باس يبوس بوساً وهو عندي خير من قبل يقبل. وأطرب وأضحى والكؤوس ورقي كلها أيضاً صحيحة. بقيت شوية وبس، فأما شوية فتصغير شيء، وأما بس فلا مثيل لها ولا غناء عنها بغيرها في اللغة العربية. وقول الشاعر العامي أو الشعبي (بس أبوسك) تعبير لا يقابله مثله في العربية، وقد حاولت مراراً أن أجد بديلا منه فلم أوفق. فإذا كان غيري يستطيع أن يهتدي إلى بديل منه في اللغة الفصحى فليفعل وليحتقب شكرنا. أمثال هذا التركيب لا أرى أي مانع في إدخاله في لغتنا العربية الفصيحة والانتفاع به فيها وإغنائها بذلك فإنه تعبير ينقصنا فعلاً وإن كنا لا نعدم منه بديلاً غير سائغ أو مقبول. ومن هذا القبيل كلمة (بقي) وكثيرون يظنونها من الفعل العربي (بقي يبقى) والحقيقة أنها فرعونية الأصل ولا معنى لها، وإنما هي كلمة يستعان بها على التمهل للتفكير مثل كلمة (ألور) في الفرنسية.